Print this page

ميركل على رأس أوروبا: بين دعم النفوذ الألماني وإنقاذ المشروع الأوروبي

تترأس المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مجلس الاتحاد الأوروبي ابتداء من غرة جويلية ولمدة ستة أشهر ستكون آخر فترة «دولية» في حياتها السياسية

قبل أن تترك منصبها كمستشارة في سبتمبر 2021 بعد 16 سنة من الحكم دون انقطاع. وأوضحت ميركل بعض الخطوط العريضة للأسلوب التي تنوي اتخاذه في إدارة الشأن الأوروبي لمعالجة القضايا العالقة والتصدي لتبعات جائحة كورونا الصحية والاقتصادية وبلورة موقف أوروبي من القضايا إقليمية والدولية. وتجدر الإشارة أن ميركل تترأس للمرة الثانية المجلس الأوروبي بعد 13 عشرة سنة و لها من القوة و القدرة على قيادة المركب الأوروبي لمدة ستة أشهر.
وسوف تتولى الحكومة الألمانية إدارة الحوار مع باقي حكومات الإتحاد لضبط برنامج الرئاسة الألمانية للاتحاد إلى نهاية السنة الحالية. وهي فترة حاسمة تواجه فيها المستشارة تحديات داخلية وأوروبية تريد برلين مواجهتها بأسلوب جديد بعد أن اتفقت مع باريس في شأن توحيد القدرات المالية على المستوى الأوروبي لمواجهة ما بعد الجائحة ولو أن بعض البلدان الشمالية لا ترغب، -في الحقيقة- في دعم هذا التوجه.
رهانات الحاضر
إن تغيير الموقف الألماني بخصوص الديون المشتركة يظهر قدرة المستشارة على مواكبة الأحداث والابتعاد على المواقف الإيديولوجي بل التصدي للمشاكل بأسلوب براغماتي. وهو ما أكدته في لقائها بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 29 جوان في قصر ميزيبارغ قرب برلين:إذ قالت:«نحن نواجه رهانات اقتصادية لم نعرفها منذ عقود وربما في تاريخنا». وهو ما حتم تغيير أسلوب مواجهة الأزمة. وأعلنت ميركل في نفس اللقاء أن «ما بعد الجائحة لن يكون فيه العالم على ما كان عليه من قبل».
هذا التشخيص المعلن يقتضي التصدي للرهانات الآنية التي تتمحور حول مواجهة تبعات الأزمة الصحية والتصدي للركود الاقتصادي الذي يهدد استقرار و نمو الفضاء الأوروبي. وهو ما جعل المستشارة تقبل في آخر المطاف مشروع الديون التشاركيةلإتقاذ المشروع الأوروبي الذي لطالما خدم الاقتصاد الألماني مباشرة ومهد للنفوذ الألماني المتجدد على حساب دول أوروبية أخرى.
الرهان الآخر المطروح على طاولة أنجيلا ميركل هو البريكست الذي يحل مع نهاية عهدتها الأوروبية. في هذا الصدد صرحت ميركل يوم 17 جوان أمام البوندستاغ «سوف نكون معا لدعم أوروبا. هذا شعارناوسوف ألتزم به بكل قواي». كلام موجه ضد شعار دونالد ترامب من جهة (أمريكا أولا) وتجاه تبعات البريكست من جهة أخرى. ونبهت المستشارة في هذا الموضوع إلى ضرورة الاستعداد إلى خروج بريطانيا العظمى من الإتحاد الأوروبي «بدون اتفاق» و اعترفت بحق البريطانيين في تقرير مصيرهم بحرية مع تنبيهها أن الخاسر الحقيقي في هذه العملية هي بريطانيا.
مصلحة ألمانيا أولا
ويهدف تغيير الموقف الألماني تجاه الملف المالي الأوروبي ودعمها الموقف الفرنسي في الحقيقة إلى حماية المصالح الألمانية أولا وأخيرا. فبعد الموقف الأمريكي العدائي لألمانيا، التي تتمتع بميزان تجاري إيجابي مع الدولة العظمى، وشروع هذه الأخيرة في فرض عقوبات و ضرائب جمركية إضافية على السلع الأوروبية، شعرت برلين أنه حان موعد تقوية المشروع الأوروبي الإطار الوحيد و المشترك الحامي للمصالح الألمانية. العمل المشترك يحتم التوصل إلى موقف موحد مع بلدان الشمال (هولندا والدنمارك والسويد والنمسا) في خصوص الملف المالي المتعلق بميزانية الإنقاذ التي حددت بنسية 750 مليار يورو.
هذا الموقف الألماني الذي اعتبره البعض «ثورة» في العقيدة التقشفية الألمانية نابع في الحقيقة من المصالح الحيوية لبرلين. ففي إطار توسيع الفضاء الأوروبي قررت ألمانيا توسيع رقعة استثماراتها تجاه بلدان شرق أوروبا وشمال إيطاليا. وهي المناطق التي تشكو اليوم من الأزمة الاقتصادية والتي تهدد، في حالة لم تحظ بمساعدة أوروبية، مباشرة استقرار الاقتصاد الألماني. تضرب ميركل بموقفها «الثوري» عصفورين بحجر واحد: تضمن دعم «مناطقها الحيوية» في أوروبا وتترك فرنسا في المرتبة الثانية خارج نطاق السيطرة على القرار الأوروبي بل تجعلها تابعا للمتطلبات الألمانية.
القضايا المستقبلية
في صورة نجحت ميركل في تمرير استراتيجيتهالأوروبا في اجتماع القمة الأوروبية يومي 17 و18جويلية، يبقى لها ملفان شائكان على المستوى الدولي: العلاقات مع الدولتين الكبيرتين الصين والولايات المتحدة وكذلك الملف التركي. وسوف تجد نفسها، في هذه الملفات مدعومة من قبل فرنسا وباقي دول الجنوب. وسوف يكون سهلا على برلين ضمان دعم الدول الشرقية «التابعة» لها اقتصاديا.
ويبقى الملف التركي المرتبط بقضية التواجد داخل الحلف الأطلسي. ملفا شائكا ومعقدا ترتبط فيه المصالح الأمنية والإستراتيجية بالرغم من الموقف العدائي الحالي الأمريكي. لكن برلين تأمل في تغيير سياسات الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية لشهر نوفمبر القادم. وسوف تدعم الموقف الألماني داخل الإتحاد الأوروبي وتساعد على تطويق الخطر التركي سواء داخل الأطر الأطلسية أو خارجها. وسوف تجد برلين في باريس حليفا قويا في هذا الملف بعد أن قرر الرئيس ماكرون تعليق مشاركة فرنسا البحرية في القوة الأطلسية تنديدا بوقف أنقرا العدائي ورفضا لتدخلها العسكري. برلين وباريس لهما مصالح حقيقية في شمال إفريقيا وهما ينسقان من أجل فرض حل في الملف الليبي، على أساس مخرجات مؤتمر برلين الأخير، لشق الطريق أمام «المشروع العثماني» في المنطقة.

المشاركة في هذا المقال