Print this page

جدل حول حَلِّ «هيئة تحرير الشام»

بعد تحرير خان شيخون من قبل الجيش العربي السوري وحلفائه والذي حقق نصرًا استراتيجيًا لإنهاء الحرب على

سوريا المستمرة منذ ثماني سنوات ، وألحق هزيمة نكراء بالجماعات الإرهابية وداعميها من قوى إقليمية ودولية، بدأت تداعيات هذا الانتصار تقفز على السطح بقوة، لا سيما فيما يتعلق بالتطورات الجارية في الشمال السوري، والتي من أبرزها عودة الحديث من جديد عن حلِّ «هيئة تحرير الشام» الإرهابية (جبهة النصرة سابقًا).

المطالبة الشعبية بحلِّ «هيئة تحرير الشام»
في ضوء استراتيجية التحرير التي تنتهجها الدولة الوطنية السورية وحلفاؤها من أجل تحرير محافظة إدلب، والتي أربكت كثيرًا الدول الغربية والإقليمية الداعمة للجماعات الإرهابية ، بوصف هؤلاء الإرهابيين بـ«متمردين» يستحقون الدعم من خلال التدخل الغربي، أعلنت روسيا عن وقف إطلاق للنار في 31 اوت الماضي، وكذلك موافقة الجيش العربي السوري في منطقة خفض التصعيد بإدلب»،المشروطة بامتلاكه لـ«حق الردِّ»، حيث كان هذا الإعلان مشروطًا بحلِّ «هيئة تحرير الشام» و ذراعها المدنية «حكومة الإنقاذ»، وفتح الطرق الدولية برقابة مشتركة تركية وروسية.

وأصبح حلّ «هيئة تحرير الشام» الإرهابية مطلبًا شعبيًا ، إذ خرجت مظاهرات في ريف إدلب الشرقي، تطالب بحلِّ «هيئة تحرير الشام» وحكومتها «الإنقاذ»، سدًّا للذرائع المفضية إلى مواصلة الهجوم على إدلب. ففي معرة النعمان بريف إدلب ، خرج مئات المدنيين والناشطين من أهالي المدينة والنازحين ضد «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) و»حكومة الإنقاذ» التابعة لها، ومندّدين بسياسة الإرهاب والإستبداد التي انتهجها (زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني) على كل محافظة إدلب، وفرض إيديولوجيتها الإرهابية و التكفيرية بقوة السلاح على السكان، بينما أهالي إدلب والمهجرون إليها على خلاف مع الهيئة، عقائدياً وفكرياً.

ولم تقتصر المظاهرات على معرة النعمان، بل تصاعدت الاحتجاجات ضد «هيئة تحرير الشام» على مدار الأيام الماضية ،في مدن وبلدات عدة بمحافظة إدلب شمال سوريا:في بلدات أريحا والأتارب وكفرتخاريم وسراقب( وتعتبر الأخيرة إحدى أكبر المدن التي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام»)، التي تسيطر على معظم مناطق إدلب، وتديرها عن طريق «حكومة الإنقاذ» والمجالس المحلية و«المحاكم الشرعية» التابعة لها.

وتنبع هذه المطالبة بحلّ تنظيم الجولاني وما يسمى حكومته «الإنقاذ» من جانب السكان المدنيين في محافظة إدلب،من وعيهم و إدراكهم بجدّية استراتيجية التحرير التي ينتهجها الجيش العربي السوري وحلفاؤه، وعدم إعطاء أي مبرر لمعاودة هذا الهجوم الاستراتيجي، الذي ستكون له إسقاطات على نحو 4 ملايين مدني وتؤدي إلى حافة كارثة إنسانية، وتفضي في النهاية إلى سيطرة الدولة الوطنية السورية على كامل محافظة إدلب، خصوصاً أن الجانب الروسي يضع شرط تفكيك الهيئة من أجل إنهاء الأعمال القتالية والبدء في استئناف الحركة على الطرق الدولية .

وفي هذا السياق، تمارس روسيا ضغوطات كبيرة على تركيا، من أجل حلِّ تنظيم «هيئة تحرير الشام»،وحلّ حكومة الإنقاذ والمجالس المحلية التابعة اليها، بهدف تثبيت وقف إطلاق النار. ونقلت صحيفة الوطن السورية عن «مصادر معارضة في إدلب»، أن مفاوضات تجري مع «الجبهة الوطنية للتحرير» المعارضة بوساطة تنظيم «فيلق الشام»، بهدف حلِّ الهيئة وتسليم الإدارات لـ«حكومة جديدة» تشكل من «الجبهة الوطنية». وذكرت المصادر، بحسب صحيفة الوطن ، أنَّ الرئيس التركي أردوغان تعهد لنظيره الروسي بوتين بـ«حلِّ الهيكل التنظيمي لهيئة تحرير الشام مع باقي التنظيمات المرتبطة بها، مثل حراس الدين وأنصار التوحيد، خلال ثمانية أيام».

وحتى الآن، لم يصدر أي تعليق عن الهيئة بشأن الأنباء التي تتناقلها وكالات الأخبار والصحف ، في ظل تباين في آراء المراقبين حول مدى استجابة «هيئة تحرير الشام» لتلك الدعوات، لكنَّ مصادر محلية ألمحت إلى وجود مفاوضات بين «تحرير الشام» و»الجبهة الوطنية للتحرير»، بوساطة تركية، للتوصل إلى صيغة تضمن ذوبان «تحرير الشام».

لقد أصبح مطلب حل «هيئة تحرير الشام» مطلبًا شعبيًا في كل محافظة إدلب ، وحتى الجماعات الجهادية الأخرى باتت تؤيد هذا المطلب، إذ تشترط روسيا حلها وفتح الطرق الدولية قبل إرساء اتفاق هدنة دائمة في شمال غربي سورية. ومن المتوقع أن يكون مصير «الهيئة» على جدول أعمال القمة،الثلاثية، التي ستجمع رؤساء روسيا فلاديمير بوتين، وإيران حسن روحاني، وتركيا رجب طيب أردوغان، في أنقرة في 16 الشهر الحالي في إطار مسار أستانة. ومن المرجح عودة التصعيد العسكري من قبل الروس في حال لم يعمل الجانب التركي على تفكيك «هيئة تحرير الشام» التي تسيطر على غالبية محافظة إدلب ومحيطها، وتديرها من خلال ما يسمى بـ«حكومة الإنقاذ».
ماهي الخيارات أمام «هيئة تحرير الشام»

تشير كل التوقعات في المنطقة أنّ «هيئة تحرير الشام»، باتت أقرب إلى الإعلان عن حلّ نفسها، بسبب تزايد حدة الخلافات الدائرة بين مختلف أجنحتها، والانشقاقات الناتجة عنها، مما يسهم في تضييق الخناق على قادة التنظيم الإرهابي، ودفعهم للقبول بصفقة تخرجهم من الأزمة الخانقة التي يعيشونها.

وتدرك «هيئة تحرير الشام» الإرهابية صعوبة خياراتها المستقبلية لإبقاء سيطرتها على محافظة إدلب، لعدة أسباب:

السبب الأول : من جراء الرفض المجتمعي السوري لمشروع «هيئة تحرير الشام» الإرهابي ،أيا كان مسمّاها، خصوصا في ظل توقع مآلات المنطقة بعد سيطرتها عليها، وما تستتبعه من كوارث محتملة، خصوصًاعلى الصعيد الإنساني. فبالنسبة ل»هيئة تحرير الشام» وما يدور في فلكهما من تنظيمات جهادية مسلحة صغيرة، فهي مصنفة تنظيمات إرهابية وتكفيرية، وهي ترفض التسوية السياسية جملة وتفصيلاً، ولا تؤمن بها أصلاً،لأن المنظومة الفكرية التي تتبناها هي الأيديولوجيا الوهابية وفكر ابن تيمية، والمصالح الذاتية لتلك التنظيمات، التي تخضع لرؤية قادتها، الذين ذاقوا شهية السلطة، والمال، والنفوذ، ويقدمون بطبيعة الحال مصلحتهم الشخصية، حتى لو تعارض ذلك مع الفكر والأيديولوجيا.

السبب الثاني: لقد أخفق تنظيم «جبهة النصرة « الذي يمثل فرع القاعدة بسوريا، في تأسيس إدارة مركزية تلم شتات الجماعات الإرهابية المتنافرة تحت راية واحدة، حيث يستحكم الخلاف بين تنظيم»حراس الدين» والحزب التركستاني الإسلامي والهيئة التي أعلنت فك ارتباطها بتنظيم القاعدة عندما كانت تطلق على نفسها اسم جبهة النصرة».

فقد انشق تنظيم «حراس الدين» عن الجولاني حين قرر هذا الأخير الانفصال عن القاعدة في فيفري 2017، وضمت لائحة القيادات الرافضة للانفصال المسؤول الشرعي السابق في «جبهة النصرة» سامي العريدي، والقيادي في الجهاز العسكري سمير حجازي «أبو همام الشامي» وقياديين مؤسسين للنصرة كإياد الطوباسي «أبو جليبيب الأردني»، وبلال خريسات «أبو خديجة الأردني». ورغم الخلافات حول الانفصال، حافظ الجولاني والمتشبثون ببيعة القاعدة على نوع من التعايش حتى الأشهر الأخيرة من سنة 2017، حيث شنت الهيئة حملة اعتقالات في صفوفهم شملت سامي العريدي، وأبا جليبيب الأردني، وأبا همام والحزب التركستاني الإسلامي والهيئة التي أعلنت فك ارتباطها بالتنظيم عندما كانت تطلق على نفسها اسم جبهة النصرة».

ويرى الباحثون في الجماعات الإرهابية ،أنّ هيئة تحرير الشام» ضعفت عندها الإيديولوجيا بسبب انفصالها عن تنظيم «القاعدة»، مما يسهل عملية حلّها.فـ«جبهة النصرة» قامت على فكر تنظيم القاعدة، وهذا الفكر تآكل لأن كثيراً من عناصر الهيئة المؤدلجين باتوا خارجها والتحقوا بفصائل مرتبطة بالقاعدة. وتحولت الهيئة إلى جهة تجمع الإتاوات وتوزع الأموال لشراء الولاءات مما أدى إلى هشاشة بنيتها التنظيمية. وفضلاً عن ذلك، هناك السخط الشعبي في محافظة إدلب على الهيئة بسبب الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها الجماهير في الشمال الغربي السوري ، حيث إنَّ ما يسمى «حكومة الإنقاذ»، وهي الواجهة المدنية للهيئة، تفرض إتاوات وتتحكم بالمعابر مع وجود عشرات الآلاف من النازحين الذين لم تؤمن لهم شيئاً، مما أدى إلى نظرة جديدة للهيئة على أنها جسم متطفل يسرق الموارد.

السبب الثالث: أنّ الدولة الوطنية السورية مصممة على عملية الحسم العسكري من أجل استعادة محافظة إدلب بأكملها من أيدي الإرهابيين، لا سيما أنَّ روسيا جاهزة للهجوم في أي لحظة لمساندة ودعم الجيش العربي السوري، لكنّها لن تقوم بذلك حالياً، إذ إنّها تنتظر ما ستؤول إليه مخرجات الموقف بشأن حلّ «هيئة تحرير الشام» الإرهابية، خصوصًا في ظل إجماع كل الأطراف الفاعلة دوليًا على إنهاء ملف «هيئة تحرير الشام» في إدلب، مما يجعل منها مضطرة إلى الموافقة على ذلك، بدلا من خيار المواجهة الذي لا يصب في صالحها.

لهذه الأسباب مجتمعة، يرى العديد من الباحثين الملمين بشؤون الجماعات الجهادية، إنَّ خيارات «هيئة تحرير الشام «باتت محدودة للغاية، لا سيما في ضوء العرض التركي الذي يقضي بحلّ «هيئة تحرير الشام» ودمجها بـ«الجيش الوطني» وكذلك «حكومة الإنقاذ» وضم كوادرها إلى «الحكومة المؤقتة».

توفيق المديني

المشاركة في هذا المقال