Print this page

على هامش سحب كتاب «فرنكشتاين تونس» من معرض الكتاب: في مخاطر التبرير والتزلف

في كل سنة هنالك عشرات الآلاف من التونسيين الذين يعيشون لأسبوع على وقع المعرض الدولي للكتاب ..

فيهم من يزورونه مرّة وفيهم من يتجندون لزيارته يوميا ، وفيهم من ينفقون دنانير معدودات وفيهم من يقتنون الكتب بآلاف الدنانير ..فيهم من يأتونه فرادى وفيهم من يتنقلون رفقة العائلة وفيهم من يقضون برهة من الوقت وفيهم من يقضون الساعات الطوال ..

معرض تونس الدولي للكتاب لقاء ومتعة وشغف وهو من أهم المحطات الثقافية والفكرية والحوارية التي تشهدها بلادنا منذ عقود وذلك إبّان الاستبداد وبعده ..

من يدمن على معرض الكتاب منذ فترة يعلم جيدا أن العناوين تخضع الى نوع من الرقابة وأحيانا الصنصرة القبلية والناشرون أو الموزعون وأصحاب المكتبات زمن بن علي كانوا لا يجازفون بعرض الكتب السياسية النقدية ، ولكن غربال الرقيب كان دقيقا آنذاك إذا كان يشتم في كتب عادية «رائحة» معارضة سياسية أو فكرية للنظام يسحبها من الأجنحة بهدوء وقل وندر أن يتفطن لهذا زوار المعرض ..

بعد الثورة وفي طفرة الحرية وبتواطؤ أو بغفلة من الحكام الجدد تهاطلت علينا كتب التطرف الديني والسحر والشعوذة ثم سرعان ما وضعت الإدارات المتعاقبة للمعرض حدا لهذه الدمغجة ولهذا التجهيل وذلك بانتقاء الناشرين الجديين – على مختلف ألوانهم وتوجهاتهم – تونسيا وعربيا ودوليا وباشتراط عرض الكتب الجديدة ، على الاقل طباعة اذا لم يكن نشرا للمرة الأولى ، وبمد إدارة المعرض بقائمة تفصيلية بالعناوين .

للأمانة نقول أننا لم نشهد صنصرة في هذا المعرض على امتداد عقد كامل من الزمن ، و في هذه الدورة حصل أمر مستراب.

منذ يوم الافتتاح عمدت سلطة الإشراف (وزارة الثقافة ) إلى سحب كتاب «فرنكشتاين تونسي» لمؤلفه كمال الرياحي عن دار الكتاب وتم غلق جناح الناشر فتحرك كل الناشرين وأصحاب المكتبات التونسية في المعرض فأغلقوا أجنحتهم تضامنا مع الناشر وحدثت مفاوضات طويلة أدت الى إعادة فتح جناح الناشر والقول بان عنوان الكتاب لم يرد في قائمة الناشر (الأولية ؟) وانه قد تم تكليف لجنة للنظر في إمكانية «الإفراج» عن الكتاب ، وفي اليوم الثاني تم سحب كتاب ثان للزميل نزار بهلول «قيس سعيد ربان سفينة تائهة» ثم كتاب ثالث «التشيع في البلاد التونسية» لصلاح الدين العامري.

ومع هذا تحولت فرق تقول أنها أمنية الى محلات البيع الثلاث لـ«مكتبة الكتاب» (لا علاقة بين المكتبة والناشر ) لتطلب مدها بمعلومات عن الذين اقتنوا هذا الكتاب !

وأمام حرج ادارة المعرض (يبدو أن بعضهم قد فكر في الاستقالة ) تم إرجاع الكتابين الأخيرين مع الإبقاء على الأول في حالة «إيقاف تحفظي».

ماذا يمكننا أن نقول عن كل هذا ؟

بداية إن ما حصل مناف كلية لدستور 2022 والذي ينص بكل وضوح في فصله السابع والثلاثين على التالي : «حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة . لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات».

لقد قام الناشر بكل اجراءات الإيداع القانون والكتاب يباع في بعض المكتبات التونسية منذ أيام .. وعلى افتراض عدم أدارج الكتاب في قائمة الناشر ألم يكن بالإمكان تلافي ذلك بقائمة تكميلية ؟ لكن الأمر اكبر بكثير من ذلك وهو يتجاوز لجنة التنظيم التي لم تقم بالحجز حسب شهود عيان ، ونفس الحاجزين هم الذين سعوا من الغد الى حجز كتاب نزار بهلول والرابط هنا واضح وجلي.

من أمر بهذا الحجز ومن أصر على مواصلته في ما يتعلق بكتاب كمال الرياحي ؟

يبدو الى حد الآن انه لا دخل لأعلى هرم السلطة في عملية الصنصرة هذه، وان «الاجتهاد» صادر من وزارة الثقافة وهي التي أحرجت أيما احراج اللجنة المنظمة لهذه الدورة ورئيستها الأستاذة زهية جويرو ..

هل حصل ذلك خوفا او طمعا ؟ لا ندري ..وهل اننا عدنا إلى المربع القديم خوفا من «المشاكل» ؟ لا ندري كذلك .. و الأكيد أن من أقدم على هذا قد اقترف امرا جللا وفتح أبواب جهنم على الحريات التي يضمنها الدستور كما أن الذين قضوا هذه الايام في اتهام الكاتب بالتطبيع وبفقدانه لكل قدرة إبداعية أو التشبث الحرفي بالنظام الداخلي للمعرض لمحاولة تحويل وجهة النقاش من صنصرة لا تكاد تخفي اسمها الى خلل في الإجراءات يتحمل الناشر مسؤوليته .. كل هؤلاء، وعددهم ليس بالهين، للأسف ، إنما هم مساهمون بدرجات متفاوتة في فتح أبواب جنهم هذه على كل الحريات التي ضمنها الدستور .. فهل سيتجرأ بعد هذا ناشرون على برمجة كتب سياسية نقدية للسلطة ؟ وهل ستتجرأ المكتبات على بيعها ؟ وهل سيقبل عليها القراء دون خشية ؟

خنق الحريات عمليات لا إمكانية لها دون سلطة لا تقبل النقد والسخرية ودون جحافل المبررين والمتزلفين الذين يستبقون ما يعتقدون أنها رغبات السلطة ..

لقد نغصتم علينا فرحة الكتاب !!

 

المشاركة في هذا المقال