Print this page

مراسيم رئاسية تعيد تشكيل منظومة الحكم: البناء القاعدي يكشف عن نفسه

نشرت يوم أمس في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية حزمة من المراسيم الرئاسية (8 . 9. 10)

التي استكمل بها وضع البناء التنظيمي والقانوني لمنظومة حكم الرئيس، والتي تحمل اليوم بشكل جلي ابرز بنود مشروعه السياسي القائم على البناء القاعدي. 

مشروع تحدث عنه الرئيس عنه منذ ان كان مترشحا يبحث عن أنصار ومزكين ولكنه صمت ورفض الخوض في تفاصيله غداة بلوغه سدة الحكم حتى بعد أن فعل الفصل 80 من دستور 2014 وامسك بكل زمام الحكم، إذ تجنب الرئيس القول الصريح بأنه ماض في تحقيق مشروعه السياسي ورفع بدل ذلك مقولة إسقاط المنظومة القائمة في إطار حرب التحرير والمحاسبة وتعويضها بمنظومة تحقق إرادة الشعب. إرادة ارتبطت في العقل السياسي لمسار 25 جويلية بالحكم القاعدي أو ما يسوقه أنصار المشروع بالديمقراطية المباشرة التي تعيد الحكم للشعب، وهنا قطع الرئيس مساره لتحقيق هذه الإرادة خطوة بخطوة، أخرها كانت المراسيم الثلاثة الصادرة أمس الخميس.
ويتعلق المرسوم عدد 8 بتنقيح القانون الأساسي للانتخابات والاستفتاء وإتمامه، والمرسوم عدد 9 يتعلق بحلّ المجالس البلدية، والمرسوم عدد 10 المتعلّق بتنظيم انتخابات المجالس المحلّية وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. ثلاثة مراسيم اعادت هندسة منظومة الحكم برمتها للتناغم مع التصورات الكبرى التي قام عليها "البناء القاعدي" وأبرزها إلغاء دور الأجسام الوسيطة وأساسا الأحزاب في إدارة الشأن العام، اذ استنسخت شروط الترشح ونظام الاقتراع المعتمدة في انتخابات مجلس النواب لتضمن في القوانين المنظمة لانتخاب المجالس البلدية وبمجالس الأقاليم والجهات.
فنظام الاقتراع المعتمد في اختيار أعضاء المجالس البلدية وأعضاء المجالس المحلية اقتراع على الأفراد لا على القائمات، كما ان الترشح للمشاركة في الانتخابات فردي بدوره، اي تقليص هوامش تدخل الأحزاب وتأثيرها في السياقات الانتخابية بما يقلص من دورها في الحياة السياسية عموما. وعلى غرار الاستحقاق التشريعي ترسم المراسيم الخاصة بالانتخابات البلدية او مجالس الأقاليم والجهات إطارا هيكليا ونظام فرز يحد من تأثير الأحزاب وتدخلها في الانتخابات، وتجعل من الاستحقاقات الانتخابية أحداثا محلية وجهوية بالأساس وليست بالحدث الوطني، اذ تغرق تفاصيل القانون وشروطه والياته المنظمة لكامل مراحل الانتخابات هذه الاستحقاقات في المحلي الضيق. ولا تستنسخ فقط شروط الترشح التي تلغى تقريبا دور الأحزاب في المسار الانتخابي لصالح "الأفراد" بل وكل البنية القانونية التي قامت عليها انتخابات مجلس النواب، التزكية وبرنامج المترشح الذي يمثل عقدا بينه وبين الناخبين ويكون احد أسس تفعيل آلية سحب الوكالة لتقدم لنا بكل تفاصيلها وتشعبها القانوني صورة واضحة وجلية عن جوهر النظام السياسي التونسي الجديد. اذ نحن أمام بناء دستوري وقانوني يجعل من منظومة الحكم مركزة بيد الرئيس مقابل مجالس منتخبة - باستثناء مجلس الجهات الخاضع لنظام القرعة- ذات صلاحية محدودة تقوم تركيبتها على الأفراد لا الكيانات والكتل السياسية. في ظل تصور لمنظومة حكم تقوم على علاقة مباشرة تجمع الشعب والدولة، لا حلقة وصل ولا وسطاءبينها . فكل المجالس المنتخبة في منظومة البناء القاعدي هي تعبير عن هذه المقولة التي تجعل من رئيس الدولة كيانا فوق الأحزاب والأجسام الوسطية والمؤسسات، فهو غير خاضع لمراقبة أو مسائلة أي منهم فهو يمثل الإرادة الشعبية وهو المنتخب الوحيد من الشعب في انتخابات ذات بعد وطنية.
منظومة حكم تنزل قناعات الرئيس ومشروعه السياسي القائم على البناء القاعدي الذي تجسدت هيكلته القانونية والدستورية والذي يقودنا الى رئيس قوي مقابل مؤسسات هشة سواء تعلق الأمر بالبناء الدستوري او بالمشروعية الانتخابية التي تحملها. هذا البناء الذي كان يستحضر كأحد المخاوف التي يخشى ان تنتج عن مسار الاستثناء اضحى اليوم واقعا استكملت عملية بنائه النظرية، لتعزز من مخاوف تجاه البلاد ومنظومة حكمها لتكون رئاسوية يحكم فيها الرئيس دون ان يتحمل المسؤولية السياسية عن حكمه.

المشاركة في هذا المقال