Print this page

«اشكي للعروي» ... «اشكي لسعيّد»

ما أكثر السياسيين والمتطفّلين والهواة الذين دخلوا إلى عالم السياسة أفواجا رافعين شعار خدمة المصلحة العامّة وتغيير الواقع المتردّي وتحقيق أهداف الثورة وتعطيل المسار البائس

والحدّ من انعكاسات العشرية السوداء وخدمة الشعب وتحقيق العدل... لكن بين الشعارات والفعل مسافة تفضح العجز عن فهم الواقع المتحرّك والمعقّد واكراهاته المتعدّدة وتُبين في الوقت ذاته عن قصور النظر. ولذلك تتغيّر مواقف الموالين والأتباع وعامة الناس كلّما تفطّنوا إلى أنّ أحوالهم تزداد سوءا وأنّ محنة كسب الرزق والمقاومة صارت لا تحتمل.

وعندما تكون الإجابة الرسمية مبنية على اجترار سردية المؤامرة التي لا ترى في ما يحدث إلاّ حجّة على وجود «ثورة مضادة» يقودها المنافقون والفاسدون وأعداء الشعب تنتفي الثقة ويغيب الصبر فيحدث المتوقّع: احتجاجات هنا وهناك، ومواجهات لا تحلّ إلاّ بالعنف فيزداد الغضب وتسترجع الذكريات «دولة القمع البوليسي، ووزارة الداخلية وزارة قمعية...» وتتجلّى صورة جديدة تتعارض مع المتوقع والوعود بـ«زوال الغمّة» وتنجلي السحب ليحدّق الناس في واقعهم بملء العين فتنطلق المقارنات.

فالمواكب للإعلام الغربي على وجه الخصوص، ينتبه إلى صدور بيانات عديدة منذ جائحة كوفيد وما ترتّب عنها من أزمات طالت جميع القطاعات، وبعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي كانت انعكاساتها أشدّ وقعا على الاقتصاد العالمي بما في ذلك البلدان المتطورة التي كانت تقدّر أنّها ستعالج الأمر بسرعة. وتندرج هذه البيانات في إطار عمل الحكومات بمبادئ الشفافية والنزاهة واحترام حقّ المواطنين في المعلومة الرسميّة المتطابقة إلى حدّ كبير مع الواقع من جهة، والتعامل مع المواطنين على أساس أنّهم شركاء في مهمّة مواجهة الأزمات من جهة أخرى إذ يتعيّن على المسؤولين وضع الخطط الشمولية (الأمنية، الصحية، الإعلامية، التربوية، القانونية ...)وتوعية المواطنين بواجباتهم ومسؤولياتهم وتشريكهم في طرح الحلول وإبداء الرأي في الاستراتجيات المقدّمة. ففي ألمانيا تقرّر منع عدّة وزارات ومؤسسات وفضاءات تجارية ورياضية ومؤسسات تعليمية وغيرها من استخدام مكيفات الهواء أو استعمال التدفئة إلاّ في الحالات القصوى، وانطلقت منذ أشهر البرامج الإعلامية التي تقدّم كلّ النصائح الإرشادية والحلول الممكنة لتخطّي الأزمات التي ستظهر مع حلول فصل الشتاء، وفتح النقاش المعمّق .

هناك لا تعنيهم أخبار «الشيخ العلمي» ولا أخبار مريم الدباغ ولا فستان يسرى محنوش أو «فضيحة» تلك الممثلة أو تلك ... هناك لا يستقون أخبارهم من «الفايسبوك» بل من وسائل الإعلام التي تحترم المواطن فتسعى إلى أن تقدّم المعلومة من مصادر رسمية وتستقصي وتمحّص في الأخبار وتثير النقاش مع أهل العلم ... هناك الرهان على السلطة الموزّعة على الجميع، والتحدّي الأكبر هو في إقناع الناس بضرورة ترشيد الاستهلاك وتغيير نمط العيش واستحداث تقنيات جديدة والتشجيع على ابتكار الحلول المستدامة وتغيير نظرة الإنسان إلى الإنسان بحيث يغدو التعاطف قيمة فضلى والتضامن وسيلة للعيش معا... هناك يخوض الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء الأنتربولوجيا وغيرهم في نقاش ثريّ يساعد الناس على فهم واقعهم من زوايا متعدّدة فيراجعون مواقعهم ويتأملون في امتيازاتهم وحاجاتهم وعلاقاتهم...

أمّا نحن فكلّما فقد السكر والسميد والوقود تهافت القوم على المحلات وتشجاروا وتنابزوا وخزّن الميسورون مواد التغذية وحتى الوقود وولوا وجوههم فالقضية قضية حياة أو موت وهم يخططون لمغادرة البلاد بعد أن فقدت المواد 'الأساسية' في نظرهم وما عاد بالإمكان الاستمتاع برغد العيش إذ كيف يمكن الاستغناء عن حمامات السباحة والتكييف و.... هنا ترتفع أصوات المُهانين والمقهورين والمستضعفين والمنسيين فلا تسمع إلاّ 'برى اشكي للعروي' فهو الذي كان نصير المظلومين يدافع عن العدل والإنصاف. أمّا المؤدلجون والمسيّسون والمنتمون إلى عدد من مكونات المجتمع المدني فإنّهم يردّدون بوجه «الجانعين» و«المغفين» برى اشكي لسعيّد وبين «العروي» الذي قدّر موقعه فامتلك سلطة الكلام وتجرّأ على فضح المستور بأسلوب بليغ والرئيس الذي امتلك كلّ السلط وأصرّ على أن «لا يسأل عن أفعاله وقراراته» مسافة كبرى.. .فيه «الخصام وهو الخَصم والحكم».

المشاركة في هذا المقال