Print this page

العودة الى نظرية المؤامرة في الخطاب الرسمي: انكار الأزمة ومن ثمة تبريرها... ماذا بعد؟

يبدو ان السلطة التونسية وجدت في «المؤامرة» ما يبرر لها تعثرها في معالجة حزمة من الازمات كان من المفترض انها استشعرتها

وبحثت لها عن مخارج عوضا عن محاولة تفسير سوء الادارة وقصر البصر بمؤامرة داخلية وخارجية.
طوال السنوات العشر الفارطة حضرت المؤامرة في الخطاب الرسمي بأشكال عدة، صريحة ومبطنة ان تعلق الامر ببحث من يمسك بالسلطة عن التنصل من مسؤوليته السياسية من فشل او تعثر في السياسات العامة. توجه اعتمدته النهضة في بداية فترة حكمها ضمن «الترويكا» وفسرت به كل شيء قبل ان يرث عنها البقية الامر.
إذ لم يخلُ خطاب السلطة منذ 2011 من الاشارة الى المؤامرة. لكن لا احد انتقل بالمؤامرة الى مربعات جديدة مثل ما هو الحال اليوم، اذ ان كل الازمات الداخلية تفسر بانها مؤامرة او مخطط محكم لاجهاض ارادة الشعب او معاقبته على تمسكه بتحقيق ارادته.
هذا الربط بين «تحقيق ارادة الشعب» ومعاقبة هذا الشعب هو ما يدعم حجج من يقدمون ازمة توفير المواد الاساسية اليوم على انها «فعل غير بريء. لا معطيات مدققة ولا احكام قضائية هو استنتاج من السلطة تريد منه ان تحقق اهدافا منها اعادة توجيه الغضب المتنامي الى خصم سياسي غير محدد ولكن تترك لعاطفة الساخطين القيام بالأمر وهذا يعفيها من تحمل المسؤولية.
الثاني ان تنفي عن نفسها وعن سياستها اي وسم بالفشل او التعثر او الضعف وتجعل من الامر معركة كبرى تحاك عبر مؤامرات تراهن على انها ستدغدغ العواطف وتفرض نوعا من الوطنية التي سيعبر عنها بالاصطفاف خلف السلطة نفسها باعتبار أنها تقف ضد هذه المؤامرة وهذا قد يمنحها وقتا لكن للاسف هي لا تستثمره في البحث عن مخارج فعلية للازمة بل في تحقيق كسب سياسي.
اليوم على الاقل يستشعر جزء كبير من التونسيين ثقل ازمة تزويد السوق التونسية بمواد اساسية كالأرز والسكر والزيت وبعض المنتوجات الاخرى بات حضورها في رفوف المحلات والمساحات الكبرى «مناسباتيا» غير مستقر. شح السوق وفقدان هذه المواد له اسباب عدة كان بمقدور السلطة السياسية وهي هنا الحكومة ان تفسره للتونسيين لكنها اختارت الصمت بل أنها تعلن ان كل المواد متوفرة وبكميات كبيرة تكفي الاستهلاك، واكتفت بهذه القصة دون ان يقابلها تزويد منتظم وكاف للسوق المحلية يغطى الاستهلاك.
اوقد اختارت حكومة نجلاء بودن سياسة اتصالية تقوم على نفي الازمة عبر بلاغات وزارة التجارة بالاساس، وهذا لا تفسير له الا باحتمالين اما ان تونس حققت معجزة في ظل سياق عالمي يتسم بشح المواد المعروضة وارتفاع اسعارها وتعثر في سلاسل التزويد اضرت باعتى الاقتصاديات واكبرها ولكنها لم تضر بتونس او ان الحكومة قامت بمغالطة التونسيين.
احتمالان لا ثالث لهما، ولكن الاقرب الى ان يكون هو الصحيح هو ان الحكومة لم تقدم كل الحقيقة للتونسيين او وفي افضل الحالات وباعتماد حسن الظن اختارت ان لا تثير الفزع والهلع لتجنب التجاء التونسيين الى شراء مواد بكميات كبرة بهدف التخزين مما ينجر عنه شح في السوق وسحب للمخزونات بوتيرة مضاعفة وهو ما يؤدي باختصار الى ازمة كبرى.
لكن وبعيدا عن حسن الظن او سوء النوايا كان يمكن للحكومة ان تفسر على الاقل شح المواد اليوم في السوق وهي ان سلاسل التزويد العالمية تواجه ضغطا متفاقما بسبب الاختلال المسجل في سلاسل الانتاج والتوزيع نجم كلاهما عن تداعيات الوباء وتفاقم ليكون ككرة ثلج ضخمة جراء الحرب الاوكرانية. مما ادى الى ارتفاع كلفة الانتاج وكلفة النقل.
هنا الحكومة ليست في حاجة الى تقديم درس في الاقتصاد ولا في التجارة بل كان يكفى ان تشرح ان الندرة او شح المواد في البلاد سببها ان هناك تطورات سلبية في علاقة بسوق هذه المواد منها السياسات التي اتبعتها الدول المنتجة وخاصة تلك التي تتصدر القائمة ولها قدرة على التحكم في السوق سواء بالتحكم في الاسعار او حجم المواد المعروضة وان تعلن انه اضافة الى هذا فان الخدمات اللوجستية من نقل وتخزين وغيرها من التفاصيل التي قد لا تكون مدركة من جل التونسيين شهدت ارتفاعا في اسعارها نتيجة ارتفاع اسعار النفط وارتفاع مخاطر النقل.
كان يمكن تفسير الامر بهذا مع تحمل جزء من المسؤولية وهو الاقرار بان الحكومة لم تكن مهتمة بالتخطيط والاستشراف لتجنب تداعيات الازمة العالمية وازمة المالية العمومية على سلاسل التوريد والتزود اي على السوق التونسية.
فشل اختارت الحكومة ان تخفيه بالاختباء خلف خطابات رئيس الجمهورية التي تتحدث عن مؤامرة تستهدف التونسيين وتبحث على التنكيل بهم لانهم اختاروا «25 جويلية»، ففي كل الخطابات التي القاها الرئيس وتعلقت بالمواد الاساسية المفقودة من السوق كان التفسير دائما هو المؤامرة باستثاء الخطاب الاخير الذي اقر بالمؤامرة ولكنه لم يعمم تاثيرها على كل المواد المفقودة.
مؤامرة يراد منها ان تفسر كل التعثرات وسوء الحوكمة والتصرف، ولكنها تعجز عن ان توفر هذا التبرير طويلا ، وهنا ستحل الصدمة محل المؤامرة.

المشاركة في هذا المقال