Print this page

رغم الأحلام والتضحيات وبعض الخطوات: تونس مازالت بعيدة عن الديمقراطية

منذ 11 سنة تفجّرت في تونس ثورة عارمة، «ثورة الحرية والكرامة»، وقد حلم جلّنا آنذاك بولوج قوي ونهائي في العصر الديمقراطي ..

كانت بدايتنا مع «الانتقال الديمقراطي» باعتباره مرحلة ضرورية بين الحكم التسلطي والديمقراطية الفعلية.. مرحلة تنجز فيها الإصلاحات القانونية والمؤسساتية والاجتماعية الضرورية تمهيدا لديمقراطية قوية تحقق الحقوق والحريات الفردية والجماعية وتحرر المجتمع من كل عوائق الانعتاق والنمو والرفاه الجماعي.. بعد 11 سنة من المحاولات والصراعات والنجاحات الجزئية والإخفاقات الكبيرة نجد أن سفينة تونس مازالت بعيدة عن المحيط الديمقراطي بل انها في تباعد متفاقم مع كل المقومات القيمية والمؤسساتية والاجتماعية للديمقراطية.
صحيح أننا أنجزنا عدّة محطات انتخابية قطعت مع تزوير الصندوق وعبّرت ولو بصفة منقوصة أو مشوهة أحيانا عن التوجهات الكبرى للرأي العام، كذلك صحيح أننا أوجدنا مناخا من الحريات ومن حرية الإعلام والتعبير رغم تسلل جهات مشبوهة إلى بعض وسائل الإعلام ورغم عدم نزاهة البعض وتحويلهم لوسائل إعلام بعينها إلى مدفعيات سياسوية بلا ضوابط أخلاقية ..
صحيح أيضا أن حكام البلاد الجدد قد تسامحوا بل تواطؤوا مع الحركات الدينية المتطرفة العنيفة ومع لوبيات مالية فاسدة مفسدة أو مع الاثنين معا ولكن بفضل نضالات المجتمع المدني وانخراط متزايد – في البداية على الأقل – لطاقات مخلصة في الشأن العام بدا لنا أن انتقالنا الديمقراطي الناشئ قادر على الصمود وعلى معالجة كل أمراض الدولة والمجتمع ..
لقد أرسل ألينا مجتمعنا إشارات عدة خلال هذه السنوات الأخيرة لكننا لم نرد الإنصات إليها وفهم أبعادها ومخاطرها ..
بعد إقبال استثنائي على صناديق الاقتراع في أكتوبر 2021 حصل تراجع تدريجي في حماسة المواطنات والمواطنين إلى درجة أننا انتخبنا برلمانا في سنة 2019 بنسبة لا تكاد تتجاوز %40 من المسجلين ..وقد عاقبت الانتخابات العامة في تلك السنة (رئاسية وبرلمانية) بدرجات متفاوتة كل الشخصيات والأحزاب التي لعبت أدوارا مؤثرة في الحكم أو في المعارضة على امتداد كامل سنوات الانتقال الديمقراطي..
لقد شاهدنا كذلك إعراضا قويا عن جلّ الأحزاب باستثناء بعض التنظيمات المؤدلجة إلى النخاع وقد طوّرت فئات واسعة من الشاب أشكالا من الانخراط في الشأن العام لا علاقة لها بالتحزب بل كانت في قطيعة تامة معه ..
لقد غلبت أنانيات «قبائل» تونس المعاصرة على كل حس وطني جامع من أجل النهوض بالبلاد وتحقيق الحد الأدنى من أسباب الرفاه الاقتصادي وبداية إصلاح جدي لجلّ منظوماتنا المهترئة ،كل هذا مع تنامي خطاب الحقد والكراهية وتخوين الآخر بعد أن ساد خطاب التكفير في السنوات الأولى من الانتقال الديمقراطي..
لقد لاحظنا أيضا ضعف الانتصار للقيم الديمقراطية ولحقوق الإنسان كلما كانت بعيدة عن حسابات الغنيمة السياسية كما عمت التفاهة ( la médiocrité) في مجالات عدة إلى أن تحولـت إلى منظومة متكاملة (la médiocratie) وفق توصيف الفيلسوف الكندي «الان دينو» منظومة تحكمت في مجالات عدة في الفضاء العام وفي تناغم مع كل النزعات السلبية في «القبائل» التونسية .
لقد تبينا كذلك أن قوة الاحتجاج عند البعض لا تتناقض بالضرورة مع ثقافة القطيع والانصياع للقوي،متى تأكد لديهم أنه هو القوي،وان الغضب تجاه ظلم ما لا يعني غضبا على الظلم في حد ذاته بل طلبا مبطنا للاستفادة من منظومة الظلم ..
لقد تاهت بلادنا بفعل تيه نخبها بالمعنى الواسع للكلمة أي كل قادة الرأي فيها حتى لو كان ذلك على مستوى حي أو قرية صغيرة أو فئة محدودة من فئات المجتمع فنمت فينا،بنسب متفاوتة ،نوازع عداونية مع المطالبة المتكررة بالثار فأصبحنا نرى في الانتقام أرقى مستويات العدالة !
سوف نخطئ ،مرة أخرى،لو فسرنا ابتعادنا المتزايد عن الديمقراطية كقيم ومؤسسات وتحولات اجتماعية بسبب تيار أو شخص أو حاكم سابق أو لاحق..نحن نبتعد عن الديمقراطية لأننا لا نستجيب كشعب وكنخب،لشروطها الدنيا ولأن جلنا يحصرها في آلية تقنوية للظفر بالسلطة وللبقاء فيها ولأننا لا نؤمن بحق الاختلاف وبحرمة الفرد وكرامته الجوهرية، ولان العيش المشترك عند جلنا هو عيش مع المؤتلف لا مع المختلف ولأننا عندما نكون في موقع قوة سياسيا أو ماليا أو ثقافيا لا نقبل بالتقاسم والتشارك ونرفض الاندماج ولا نرى من سبيل سوى العيش بين أقراننا ونظرائنا..
نحن بصدد إهدار حلم عظيم ناضلت أجيال من اجله لأننا نفضل السراب على الحقيقة واضغاث الأحلام على البناء والعمل والمثابرة..
الدنيا لا تبتسم عادة مرتين ..ولسنا ندري هل سنجد في أنفسنا وإرادتنا الفردية والجماعية ما يكفي من طموح لاقتلاع ابتسامة ثانية.

المشاركة في هذا المقال