Print this page

«شهادة للتاريخ» عن الخروج من التاريخ

ما المبرّر وراء كتابة الغنوشي «شهادة للتاريخ: كيف نقوّم حدث 25 جويلية وكيف نتعامل معه؟» فهل شعر الشيخ بأنّ التونسيين بحاجة

إلى فهم الأسباب التي أدّت إلى «الانقلاب» وتقويم حدث 25 جويلية فقدّم قراءته باعتباره رئيس البرلمان التونسي المُجمدة أعماله ورئيس حركة النهضة؟ أم أنّ الشيخ هو الذي يشعر بأنّه بحاجة ماسة إلى فرض وجوده وتذكير التونسيين بأنّه لايزال فاعلا سياسيا ومفكّرا وشاهدا على التاريخ؟ ثمّ لم اختار الغنوشي تنزيل مقاله ضمن جنس «الشهادات التاريخية» ؟
يتفطّن المطلع على هذا المقال/الشهادة إلى أنّ الأسباب التي مهدّت لسعيد باقتناص الفرصة والاستيلاء على السلطة تعود بالأساس، حسب قراءة الغنوشي، إلى عوامل تتجاوز حركة النهضة ورئيسها فـ«عودة النظام القديم إلى الساحة سنة 2012 أربك المشهد وأطاح بموازين القوى» يُضاف إلى ذلك «الزلزال المصري في صائفة 2013، الذي أطاح بموازين القوة، لا لصالح ثورات الربيع وإنما على الضد منها بالكامل، الأمر الذي أدخلها في حالات خطيرة من الفوضى والردة والعنف، بما فسح مجالا واسعا للإرهاب ولتوظيفه من قبل القوى الاقليمية والدولية ضد الربيع العربي، بل للإجهاز عليه». ولا يمكن تجاهل فشل «قوى الثورة، وقوى 18 أكتوبر2005 في تجميع صفوفها وإقامتها لـ«تحالفات غير مبدئية». أمّا الفشل في تحقيق التنمية فإنّه يعزى إلى كثرة الطلبات و«أنّ انتظارات جمهور الثورة في التنمية كانت عالية لم تسعف حكومات الثورة في تحقيقها أمام الخبرة المحدودة للحكام الجدد وأمام ضغوط النقابات وصولة الاعلام والاوضاع الاقليمية المضطربة». تضاف إلى كلّ ذلك «هجمة الثورات المضادة والاوضاع الاقليمية غير المناسبة إلى جانب حداثة خبرة رجال العهد الجديد».
تتشابك العوامل الخارجية مع نزعات الاستئصال ورفض سياسة التوافق و»دخول موجات شعبوية عاتية متجاوزة كل أفق وسطي أو توافقي، كل ينشد الحق المطلق ويشيطن خصومه قيس، عبير، الكرامة، اليسار..» و«أحزاب استئصالية كحركة الشعب أو يغلب عليها ذلك'' لتؤدي إلى غضب شعبي تحوّل إلى ترحيب بـ«الانقلاب».
أمّا حزب النهضة فإنّه الحزب الأكبر الذي لا ينفكّ عن تقديم التنازلات، يضحّي بوحدته وانسجامه في سبيل مصلحة تونس، وهو ممثل القوى الثورية الذي وفر للجيل الجديد مناخا ملائما حتى ينعم بالاستقرار والحرية واحترام دولة القانون، وهو الذي جاهد في سبيل انتزاع مكانته ولم يغنم إلاّ بعض المواقع، وهو الذي جعل تونس «أيقونة الديمقراطية' وبفضل حكمة شيخ الحزب تتالت «التكريمات» والجوائز العالمية. كما أنّ الحزب يتقن المناورات السياسية ولذلك أسقط حكومة الفخفاخ «الذي كان تحيزه واضحا لحزبي الرئيس (الشعب والتيار) وكان مغرورا، لا يتردد في التصريح بعدم مبالاته بِنَا ونحن أقوى حلفائه».
ويبدو المشيشي في نظر الشيخ «ضعيفا محاطا بشرنقة من أصحاب المصالح» أمّا قيس سعيد فهو المسؤول عن الأزمة السياسية وهو مروّج لليوتوبيا والأوهام ومتناقض في مواقفه وغير مدرك لما سيؤول إليه الأمر فالمعارك «يوم لك ويوم عليك».
وتجمع هفوات الحركة في عدم «التقاط نبض الشارع»، وأنّ «اختيار الحركة غير الموفق للأسف للحبيب الجملي لرئاسة الحكومة» وأنّها لم تملك «الجرأة على اتخاذ قرار المغادرة ولو من طريق سحب الثقة من تلك الحكومة الميتة أصلا بعد أن فرض عليها قيس الشلل بتعطيله للتحوير كتعطيل للمحكمة الدستورية، بل إن آخر دورة لمجلس شورى النهضة قبل الانقلاب، قرّر مواصلة دعم المشيشي بنسبة 90‎ ‎% دلالة ذلك على ضعف في وعي النخبة وارادة القرار».
وهكذا ينزّه الغنوشي نفسه عن ارتكاب الأخطاء والاستبداد بالرأي وسوء التقدير، وينفي مسؤوليته وعدد من القيادات في استشراء الفساد بما فيه الفساد في قطاع القضاء، وإضعاف مؤسسات الدولة، واتباع سياسات الإفلات من العقاب والغنيمة وانتشار الإرهاب إلى غير ذلك من الأزمات التي تخبطت فيها البلاد.
لا تُخالف هذه «الشهادة» توقعات التونسيين وقناعاتهم بأنّ الغنوشي قد مات سياسيّا وأنّه صار خارج الفعل السياسي. فالرجل غير قادر على رؤية الأمور من منظور النقد الذاتي، وغير مستعدّ للإقرار بالأخطاء التي ارتكبها في حقّ التونسيين وغير مدرك لخلو خطابه من المقومات الرئيسية التي تجعله مؤثرا في التونسيين.
إنّ خطابا يتأسس على الاستعلاء وثنائية النحن/هم، الخير/الشرّ... ويبحث فيه صاحبه عن شمّاعة يلقي عليها الأخطاء ويبرئ نفسه من المسؤوليات الجسام والأخطاء الكبرى ولا يملك الشجاعة لتقويم ذاته... خطاب عديم الجدوى وفاقد للقيمة وبعيد عن إيطيقا الاعتراف.

المشاركة في هذا المقال