Print this page

الخطاب الشعبوي أمام تحديات الواقع الاقتصادي: بداية التراجعات في انتظار المراجعات

للخطاب الشعبوي فاعلية لا يضاهيه فيها اي خطاب آخر عندما يتعلق الأمر بنقد الواقع وبنقد النخب المسؤولة عنه لأنه الخطاب الأكثر راديكالية

(النخب الحاكمة نخب خائنة وفاسدة ) ولأن حلوله هي الأكثر جاذبية ،عندما نزيح هذه النخب الخائنة سيعيش الشعب في بحبوحة من العيش ..
نجاح الخطاب الشعبوي عندما يكون خارج السلطة ظاهرة نلمسها اليوم في جلّ الدول الديمقراطية وقد تحول هذا النجاح إلى انتصارات انتخابية في أكثر من دولة لكن نجاحه في الحكم مسألة مختلفة تماما ..
يخطئ من يعتقد أن التيارات الشعبوية غير قادرة، بطبيعتها،على الحكم وعلى إدارة الشأن العام،فالشعبوية شعبويات وبعض الحركات التي تنعت بها لديها بعض القدرة في مرحلة الحكم علاوة على فاعليتها الكبيرة في زمن المعارضة والأمثلة عديدة: ترامب في أمريكا وبوتين في روسيا وأربان في المجر وأردوغان في تركيا وغيرهم ..
والسبب في ذلك أن لهذه القيادات الشعبوية وللحركات التي يتزعمونها تصور واضح للحكم القوي ولنجاعته في الإنجاز وفق منظور سيادوي –ولاشك– ولكنه يعمل على دعم منظومات الإنتاج وإكسابها قدرا كبيرا من الفاعلية تحت قيادته ولا يهدف مطلقا إلى التصادم معها بل يكتفي بالسيطرة عليها وبمعاقبة كل من يعتزم الخروج عليه ..
في تيارات شعبوية أخرى – كما الحال عندنا في تونس – لا يوجد تصور للحكم ولإدارة الشأن العام بل – فقط – كيف نصل إليه وكيف نحافظ عليه بالخصوص، وأمام غياب القدرة على إدارة الشأن العام يراوح الخطاب الشعبوي بين مواصلة الهجوم على «المنظومة» والتراجع أمام إكراهات واقع اقتصادي صعب يجد صعوبة جمّة لفهمه فما بالك بحسن توجهيه ..
من اليسير جدّا أن ننسب تردي الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لقطاعات واسعة من الشعب التونسي إلى فساد المنظومة السابقة التي فقّرت الشعب ونكّلت به ونهبت ثرواته،منظومة تتحالف مع القوى الأجنبية للإساءة إلى البلاد عندما تُقصى من السلطة ..
هذا الخطاب له جاذبية كبرى ولاشك ولكنه يحمل في طياته بذور فشله لأنه يعد الناس – من حيث أراد أو لم يرد – بغد أفضل سريع فما دامت الدولة غنية يكفي إذن إبعاد الفاسدين من سدة الحكم لتعم بحبوحة العيش جموع المفقرين والمهمشين في زمن معقول، أي في بعض الأشهر أو في سنوات قليلة .
هذا الأمل هو الذي يدفع قطاعات واسعة من الشعب التونسي إلى مساندة رئيس الدولة ولكل إجراءاته الرامية إلى إقصاء المنظومة السابقة ولكن هذا الأمل مرتهن بالقدرة على تحقيق هذا الوعد الضمني، بداية بتشغيل مئات الآلاف من العاطلين عن العمل في أفق منظور ..
ولكن الواقع الاقتصادي ،وخاصة عناصره الصلبة ، لا يمكن لأحد أن يضعه بين قوسين،ومن يحكم اليوم مطالب قبل تحقيق الرفاه المنشود بأن يحافظ على الحدّ الأدنى من الموجود وأن يعالج الملفات المتراكمة كالمديونية المتفاقمة للدولة وضعف أداء مختلف منظوماتنا الإنتاجية لأسباب ظرفية (أزمة الكوفيد وعدم الاستقرار السياسي مثلا) ولأسباب هيكلية تتمحور كلها حول تواضع القيمة المضافة في بلادنا وعدم قدرتنا على الارتقاء في سليم القيم.
يجد الخطاب الشعبوي الرسمي في تونس اليوم نفسه في وضعية لا يحسد عليها،ووضعية لم يستعد إليها وهي تخرجه بكل قوة من منطقة رفاهه الكلاسيكية: الاضطرار إلى إيجاد حلول عاجلة لمشاكل معقدة ودون أية قدرة على توزيع ثروة لم تخلق بعد ولن تخلق في المدى القصير ..
نحن على مشارف سنة جديدة ولم نعرف بعد كيف نوفر الحاجيات المالية لما تبقى من هذه السنة،ولا نملك أية خطة واضحة لتمويل الميزانية القادمة فما بالك بخلق مئات الآلاف من مواطن الشغل في الوظيفة العمومية وفي القطاع العام !!
الغريب أن السلطة الحاكمة في تونس بدأت تدرك اليوم فقط حجم التحديات المطروحة أمامها وأن سياسة «التلقيح المكثف» لا يمكن أن تنجح في كل القطاعات ولا أدل على ذلك من عدم قدرة الدولة بعد مرور حوالي 40 يوما عن إيجاد حلّ وقتي لأزمة الفضلات في صفاقس واضطرار الدولة إلى الاستجداء من أجل إيجاد الموارد المالية الضرورية حتى تتمكن من الإيفاء بالحد الأدنى من تعهداتها ..
بعد شعار «تونس دولة غنية لكنها منهوبة» اضطرت الشعبوية الحاكمة في البلاد إلى المرور دون سابق إنذار إلى شعار «التقشف» مع ما يعنيه ذلك من رسائل سلبية في الداخل وفي الخارج ..
نحن نشاهد بأم أعيننا بداية التراجعات المتعثرة وغير المنظّمة للوعود الشعبوية في غد سريع مزدهر ولكن الخطاب الشعبوي لا يريد أن يتحول إلى خطاب عقلاني يحدد الصعوبات بدقة ويطرح الإصلاحات الضرورية العاجلة لأنه بذلك يفقد هويته وبالتالي جاذبيته التي خلقت شعبيته ..
سوف نراكم التراجعات تلو التراجعات وسنبحث في كل مرة عن إرسال رسائل رمزية للأنصار نذكرهم فيها أن كل هذه التراجعات لا تعني «التطبيع» مع «المنظومة» والتراجع عن الحلم الأول بل هي مجرد تنازلات تكتيكية للقفز مجددا إلى الأمام وبكل قوة ..
يبدو أننا شعب نحتاج إلى التعلم من أخطائنا وأننا لا نملك القدرة على استباق المخاطر المحدقة بنا فوضعنا ثقتنا في من يدعي انه سيحكمنا باسم الله ثم تبينا خطأنا فوضعنا ثقتنا في من قال لنا انه سيحكمنا باسم الحداثة، فخاب ظننا مجددا وها نحن نضعها اليوم في من يقول لنا أننا سنحكم أنفسنا بأنفسنا وغدا لا ندري كيف ستكون معالم «التجربة» القادمة ..
فعلا إن تجارب الآخرين لا يستفيد منها إلا... الآخرون .

المشاركة في هذا المقال