Print this page

أزمات اليسار وصعوبة عـودة الروح

يعتبر توفيق الحكيم من أهم الكتاب المصريين وقد امتزجت كتاباته ورواياته بنفس فلسفي إلى جانب إتقانه للكتابة الروائية. وجعل الزخم الفلسفي

والفكري في رواياته ومسرحياته الكثير من النقاد يعتبرونه أب المسرح الذهني .والى جانب إشعاعه الأدبي كانت لتوفيق الحكيم علاقة وثيقة بالسياسة وخاصة بالثورة التي قادها الزعيم عبد الناصر والذي اعتبره الأب الفكري لثورة 23 يوليو 1952 قبل أن ينقلب على هذه المبادئ ليساند أنور السادات ويساند الانفتاح السياسي والاقتصادي الذي قام به منذ 1972.

وقد طالعت بكثير من الشغف كافة كتابات توفيق الحكيم من روايات ومسرحيات وكتب فكرية .ولعل من أهم الكتب التي تركها لنا الحكيم سنة 1972 رواية «عودة الوعي» والتي كتبها في باريس عند تحوله إلى هناك لإتمام دراسته الجامعية ولم تنشر في القاهرة إلا سنة 1933 عند عودته .وقد حاول من خلال هذه الرواية رسم التحولات التي بدأت تعرفها مصر مع ثورة 1919 والتي ساهمت في نحت الشخصية المصرية والتي اعتبرها جمال عبد الناصر المرجع الفكري للقومية العربية .
إلا أن توفيق الحكيم تراجع عن الدعم القوي والمساندة الكبيرة للفكر الناصري في كتاب جديد نشره في بداية السبعينات تحت عنوان «عودة الوعي» .وقد وجه في هذا الكتاب سهام نقده للفكر والتجربة الناصرية ليعود إلى قناعاته الليبرالية ويساند الرئيس أنور السادات . وتحول موقف الحكيم إلى خيانة كبيرة للأفكار التي دافع عنها في الخمسينات والستينات .
جال بخاطري كتاب «عودة الروح» للحكيم عندما انتهيت من مطالعة كتاب عزيز كريشان الأخير الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان «la gauche et son révit» أو «اليسار وسرديته الكبرى» منذ أسابيع عن دار النشر «كلمات عابرة» .والسؤال الذي راودني بعد قراءة هذا الكتاب المهم كان حول مدى مساهمته في «عودة الروح» لليسار والحركات اليسارية بعد سلسلة الانتكاسات والهزائم التي عرفتها في بلادنا منذ ظهور اليسار الجديد اثر الانتفاضات الشبابية في ربيع 1968.
لكن قبل الخوض في هذا السؤال ومحاولة تقديم قراءة نقدية لما قدمه الكاتب في هذا المؤلف سنحاول أن نضع الإطار العام الذي ينخرط فيه هذا المؤلف من خلال إلقاء نظرة سريعة على التطورات الأخيرة لليسار الفكري والسياسي بعد سقوط جدار برلين وسقوط المعسكر الاشتراكي سنة 1989.

• سقوط جدار برلين وأزمة اليسار
شكل سقوط جدار برلين زلزالا كبيرا للحركة اليسارية في العالم .ولم يقتصر هذا الزلزال على الهزيمة السياسية مع سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي بل شكل انهيارا للمشروع الشيوعي والذي تعاني الحركات اليسارية إلى يومنا هذا من تبعاته .
وقد ارتكز هذا المشروع منذ انتصار الثورة البلشفية سنة 1917 في روسيا على ثلاثة أسس أساسية .
الأساس الأول سياسي ويهم هيمنة الحرب على الدولة وعلى المجتمع ومنع كل التعبيرات المستقلة ومنع حركات المجتمع المدني من التواجد خارج أطر الحزب الذي قدم نفسه على انه التعبيرة السياسية للطبقة العاملة .وقد تم بناء هذه الهيمنة على أساس فلسفي رافض للديمقراطية الليبرالية والذي اعتبر أن للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأولوية على الحقوق والحريات السياسية.وقد تم اعتبار الديمقراطية والتعدد حرية شكلية لا تضمن حقوق المهمشين والطبقات الكادحة في تحقيق حاجياتهم اليومية من شغل وصحة وتعليم .
ولعله من المهم العودة على هذه التجربة السياسية والتي انطلقت من فكرة الديمقراطية المباشرة من خلال انتخابات «السوفيات» أو المجالس العمالية ولجان الأحيان والمدن .إلا أن هذه التجربة الثورية والراديكالية لتحقيق الديمقراطية في سنواتها الأولى انتهت إلى هيمنة وسطوة الحزب الشيوعي على هذا المد الديمقراطي والثوري .
الى جانب هيمنة الحزب كان الأساس الثاني لهذا المشروع هيمنة الدولة على كل أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية .لذلك تم إقصاء السوق وقدرته على المساهمة في تنظيم الاقتصاد ليأخذ التخطيط والمخططات الاقتصادية كل مجال في تنظيم المجال الاقتصادي والاجتماعي. لتحقيق هذا المبدإ ظهرت بيروقراطية وأخطبوط كبير اثبت على مدار السنين عجزه عن تنظيم الاقتصاد وتنميته .

أما الأساس الثالث لهذا المشروع فهو تهميش المبادرة الفردية والقطاع الخاص وعدم السماح لهما بالمساهمة في الإنتاج الاقتصادي .
وقد عرف هذا المشروع بعض النجاحات في سنواته الأولى حيث مكن الاتحاد السوفياتي وعديد البلدان الأخرى من الخروج من المجتمع الزراعي ومكنها أن تصبح قوى اقتصادية فاعلة وأساسية أمام البلدان الرأسمالية .إلا أن هذا المشروع سرعان ما عرف انتكاساته لتبدأ أسسه وركائزه في الاهتزاز .إذ عرفت هذه البلدان على المستوى السياسي صعود حركات المجتمع المدني والمعارضة الديمقراطية والتي أخذت ترفض الاستبداد وهيمنة الحزب الواحد .
كما عجزت الدولة والتخطيط عن تطوير الاقتصاد لتعيش هذه المجتمعات على واقع النقص والندرة في السلع الأساسية .
كما أن غياب القطاع الخاص ساهم في تراجع الاقتصاد وعجز هذه البلدان عن مواكبة التنافس الذي فرضته عليها البلدان الرأسمالية .
وقد ساهمت هذه العوامل والأزمات في تراجع هذا المشروع إلى حد انهياره المدوي اثر سقوط جدار برلين سنة 1989.
ومنذ هذه اللحظة الفارقة دخلت الحركات اليسارية وأيتام المشروع الاشتراكي في أزمة خانقة .فرغم العديد من المحاولات من طرف الكثير من المفكرين والأحزاب وخاصة الاشتراكية الديمقراطية منها في أوروبا الغربية بقيت الحركات اليسارية دون رؤيا أو مشروع أو روح سياسية .وتحولت اغلب هذه الحركات من أحزاب حكم إلى أحزاب وحركات نقدية ومعارضة لا تنتعش الا في مجابهة العولمة ورفضها .

• عزيز كريشان ومحاولة عودة الروح
ينخرط كتاب عزيز كريشان في هاته المحاولات المتفرقة من أجل بعث روح جديدة في المشروع اليساري. وتكمن أهمية هذا الكتاب وهذه المحاولة تكمن في شخصية الكاتب .فعزيز كريشان مناضل يساري خبر وعاش تجربة اليسار من موقع القيادة.فقد لعب دورا رياديا في تجربة اليسار الجديد التي ظهرت في بلادنا كما في اغلب بلدان العالم،اثر ثورات الشباب في ربيع 1968 وتبوأ مراكز قيادية في تنظيم آفاق العامل التونسي .
والى جانب تجربته السياسية يعتبر عزيز كريشان مفكرا وقد أصدر عديد الكتب والمقالات التي ساهمت في تحليل وقراءة التطورات السياسية والاجتماعية في بلادنا .
وكان بالتالي من القلائل الذين جمعوا بين العمل السياسي المنظم والعمل الفكري .
كما كانت لعزيز كريشان تجربة في أعلى هرم السلطة في بلادنا من خلال توليه مهمة استشارية عند رئيس الجمهورية الأسبق المنصف المرزوقي .
هذه التجارب المختلفة في عديد المستويات تعطي لآراء وأفكار عزيز كريشان أهمية خاصة.
لقد قام عزيز كريشان في مؤلفه الجديد بقراءة نقدية هامة وأساسية لأبرز القراءات والتحاليل الاقتصادية للتيارات اليسارية التونسية .إلا أن أهمية هذا الكتاب تكمن في رأيي في جانيين .
الجانب الأول تقديمه لنظرية النظام الريعي لقراءة وفهم أزمات الاقتصاد التونسي. وهكذا ينخرط عزيز كريشان في الحوار العام حول النظام الريعي في بلادنا.إلا أن أهمية تكمن أهمية كتاب عزيز كريشان تكمن في كونه أول محاولة نظرية لفهم وقراءة النظام الريعي بطريقة علمية .ويؤكد الكاتب ما ذهبت إليه النظريات الاقتصادية التي تؤكد على أن هذا النظام له شرطان أساسيين .

الشرط الأول محاولة المؤسسات الاقتصادية الخاصة والعمومية البحث عن حماية الدولة لتفادي المنافسة وبالتالي العيش على نفس المكاسب القديمة وعدم البحث عن تطوير نفسها من خلال البحث والتجديد والابتكار .
أما الشرط الثاني للنظام الريعي في وجود ثورة طبيعية كالنفط أو المناجم أو الفلاحة والتي تمكن الدولة من الحصول على موارد هامة لتجاوز ضعف الموارد الجبائية للمالية العمومية.فالحماية التي تتمتع بها المؤسسات الاقتصادية لا تدفعها إلى تطوير إنتاجيتها ونجاعتها الاقتصادية وبالتالي ستكون اداءاتها للدولة محدودة .وهذا يتطلب من الدولة إيجاد مداخيل من مجالات أخرى وهي غالبا من الثروات لنعد إلى الممارسات الطبيعية للإيفاء بحاجياتها .

إذا اتبعنا هذا التحديد النظري للنظام الريعي هل يمكن أن نوافق عزيز كريشان على استعماله لهذا المفهوم في قراءة واقع الاقتصاد التونسي .قطعا لا لأن بلادنا ليست لها الموارد الطبيعية الكافية لتحقق الشرط الثاني للنظام الريعي .وفي رأيي نحن بصدد ممارسات ريعية ولسنا بحضرة نظام ريعي (on est en présence de pratiques rentières et non pas d’un régime rentier)

ولّنعد الآن إلى الممارسات الريعية أو التي اسميها الحمائية وهل هي ضرورية في الاقتصاديات الحديثة . إن الدراسة المقارنة لتجارب النمو وخاصة في البلدان الآسيوية تشير إلى أهمية هذه الممارسات في بناء تنافسية القطاعات الاقتصادية .إلا أن الحماية من المنافسة وخاصة الخارجية منها لا تقدمها الدولة بصفة مستمرة ولكل القطاعات .بل تكون الحماية في القطاعات الجديدة والتي تتطلب استثمارات كبرى وتتطلب درجة كبيرة من المخاطرة التي تقدمها الدولة في إطار اتفاق مع المؤسسات في مقابل استثمارات كبرى في البحث والابتكار .

ومن هذه الناحية فإن الإشكال الكبير في بلادنا هو أن هذه الحماية تم تقديمها بطريقة دائمة ومستمرة لكل القطاعات .وهذه السياسة لم تساعد على تطوير إنتاجية وتنافسية اقتصادنا .

وهذه التحاليل والقراءات لواقعنا الاقتصادي تطرح السؤال الأهم وهو كيف يمكن لنا الخروج من أزماتنا الاقتصادية اذا انخرطنا في القراءات التي تعطي الأهمية القصوى لإشكالية الريع فإن الحل يكمن في المنافسة الداخلية والخارجية .ولا أخال عزيز كريشان ينخرط في هذه الحلول .
وفي رأيي فإن التحدي الأساسي لاقتصادنا اليوم على أهمية وضرورة الحد من الإجراءات الحمائية غير الموجهة هو إيقاف نزيف التوازنات الكبرى وإعادة بناء نمط تنمية جديد يمر عبر بناء سياسة صناعية جديدة ستكون حماية القطاعات الجديدة احدى أدواتها .

أما الجانب الثاني المهم في كتاب عزيز كريشان فيهم مقترحاته للخروج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها بلادنا .وتكمن أهمية هذه المقترحات في رأيي في محاولتها القطع مع الأطر التقليدية للإجابات اليسارية حول الأزمات الاقتصادية والاجتماعية .ولنتفق مع الكاتب على اعتبار الأزمات فترات هامة للابتكار الاجتماعي والسياسي في مجال السياسات العمومية .إلا انه وبالرغم من هذه المحاولة فإن بعض الحلول والإجابات كانت مواصلة للبرنامج والمشروع اليساري القديم .

سأقف في هذا المقال على أهم المقترحات التي قدمها عزيز كريشان للخروج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية .المقترح الأول الذي ينادي به الكاتب يهم الرجوع إلى الأراضي الفلاحية الدولية وتهيئتها وتحويلها إلى الشباب العاطل عن العمل من خلال برامج الاقتصاد التضامني والاجتماعي .وتشكل تجربة جمنة مثالا ناجحا في هذا المجال .
في رأيي وعلى أهمية هذا المقترح فإن تجربة جمنة كانت التجربة الوحيدة التي حققت هذا النجاح إلى جانب فشل الكثير من التجارب الأخرى كما أشارت إلى ذلك العديد من الدراسات والتحاليل لفهم أسباب هذه الصعوبات وطرق تجاوزها .
المقترح الثاني والهام يخص تجارب إقحام القطاع غير المنظم في الدورة الاقتصادية الرسمية من خلال بعض المقترحات .وقد انطلقنا في تطبيق جزء منها ولابد من تدعيمها وتطويرها .

المسألة الثالثة تهم الأشغال الكبرى والتي يعود إليها الاقتصاديون منذ كينز لدفع الاقتصاد في فترات الأزمات من خلال الاستثمارات العمومية .وعلى أهمية هذا المقترح فإن وضعية المالية العمومية لا تسمح بتطبيقه والدخول في استثمارات كبرى .وهذا يتطلب منا دعم الشراكات بين القطاعين العام والقطاع الخاص في هذا المجال .
المسألة الرابعة التي تعرض اليها الكاتب تهم المديونية.وإن كنا نتفق مع الكاتب على العبء الكبير الذي أصبحت تشكله المديونية فإن رفض التزاماتنا في هذا المجال سيزيد الطين بلّة وتعمق الأزمة المالية خاصة في الوقت التي تعيش فيه المالية العمومية أصعب وأحلك فتراتها في تاريخ الدولة الوطنية.

المشاركة في هذا المقال