Print this page

أزمة سياسية - أزمة مالية – أزمة صحية: لننقذ ما أمكن من نصف الكأس الملآن

من نافلة القول : التذكير بأن تونس تعيش أزمة معقدة ومركبة،أبعادها متضافرة ومضامينها متحولة..

لا تخضع أبعاد هذه الأزمة إلى سببية بسيطة، بل نحن في أزمة كل بعد فيها سبب ونتيجة في نفس الوقت..
الأزمة المالية ليست وليدة اليوم وإلا لما كانت بلادنا قد لجأت في مناسبتين متتاليتين إلى صندوق النقد الدولي في 2013 و2016 وهي تسعى الآن إلى إبرام اتفاق جديد لعله الأهم في تاريخها من حيث المبالغ المالية (تونس تريد 4 مليار دولار أي حوالي 11 مليار دينار) وجملة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي سنضطر إليها .

وجاءت الجائحة الصحية لتفاقم الأزمة المالية بصفة غير مسبوقة في تاريخ تونس المستقلة كما بين ذلك محافظ البنك المركزي مروان العباسي أمام مجلس نواب الشعب ،والأخطر في هذه الأزمة غير المسبوقة لا يتمثل فقط في انكماش اقتصادنا سنة 2020 بـ%8.8 بل وبالتدني غير المسبوق لنسبتي الاستثمار والادخار واللتين تحولتا في عشرية واحدة من %24.6 إلى %13.3 من نسبة الاستثمار للناتج المحلي الإجمالي ومن %21.1 إلى %4.0 فيما يتعلق بالادخار وهذا يعني أن استرجاع مستوى نمو سنة 2019 قد يتطلب منا ثلاث أو أربع سنوات بينما سيكون المعدل العالمي في حدود سنة ونصف فقط.

ولم تتسبب الأزمة الصحية في مفاقمة الأزمة المالية فقط بل أننا خسرنا فيها إلى حد الآن 12623 تونسية وتونسي والحصيلة مرشحة للارتفاع نظرا لتدني نسبة التلقيح إلى حدّ الآن رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها المنظومة الصحية والسبب في ذلك أننا لم نستبق بما يكفي وبالفاعلية الضرورية مرحلة اقتناء التلاقيح .
نقول كل هذا لنؤكد أن مشاكلنا لا تتأتى كلّها من الأزمة السياسية الخانقة التي تهز البلاد والتي وصل فيها كسر العظام بين بعض مختلف مكونات السلطة إلى مستوى غير مسبوق كذلك..

لاشك أن انسجام السلطة التنفيذية من شانه أن يحدّ بنسب من الأزمتين المالية والصحية وان يُعدّ البلاد بصفة أفضل لمجابهة تداعياتهما،ولكن هل يعني استمرار هذه الأزمة العبثية أن نلقي بكل أسلحتنا وألا نعمل من اجل تفادي الأسوإ ؟
هنالك وجهة نظر بصدد الاكتساح في بلادنا وهي ترك هذه المنظومة الفاسدة تهوي إذ لا إمكان لإصلاحها وأن كل عملية تمديد في عمرها خسارة ستدفع البلاد ثمنها مضاعفا ..

هنالك وجاهة في هذا الرأي لاشك فيها، فنحن أمام منظومة حكم قد أساءت كثيرا للبلاد،ولكن المنظومة لا تعني فقط أحزاب الحكم أو ما يسميه بعضهم بالدولة العميقة..المنظومة أوسع من ذلك بكثير وهي تكاد تشمل جلّ القوى التي لها دور ما في إدارة الشأن العام حتى لو كان ذلك بالسلب ..
ثم لو انهارت البلاد ماليا فهل نحن ضامنون أنها ستكون قادرة أولا على معاقبة فعلية لهذه المنظومة وان تكون قادرة كذلك على النهوض مجددا ؟ !

إن الانهيار المالي -لو حصل – ستكون ضحيته الأولى كل الفئات الهشة في البلاد ثم تتبعها فئة الأجراء ثم كل فئات المجتمع حتى الميسورة منها ..والأخطر من كل هذا أن الانهيار قد يقضي كذلك على كل إمكانيات النهوض السريع ويدفع بالبلاد إلى منطقة من الأزمات والعواصف الاجتماعية وهكذا نكون قاب قوسين أو أدنى من حالة الفوضى العارمة ولا شيء يدل على أن المنظومة الحالية ستكون هي الخاسر الاول.

إن العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتجنب الانهيار المالي وتجنب أزمة اجتماعية دون أفق لن ينقذ البتة هذه المنظومة ،ولكنه سينقذ أرواح وأرزاق التونسيات والتونسيين وغالبيتهم لا ناقة لهم ولا جمل في اختيار الحكام وخاصة في اختياراتهم .
الرهان اليوم ليس في إنقاذ هذه المنظومة من عدمه، فنحن نعتقد جازمين أن مدة صلاحية هذه المنظومة قد انتهت،بل هو في إنقاذ الوطن حتى وإن كره جزء من الطبقة السياسية ذلك..وإنقاذ الوطن يفرض على الجميع سياسة ضبط النفس اقتصاديا وماليا،أي القطع مع كل مطلبية تعجيزية والعمل على استئناف الإنتاج في كل القطاعات دون استثناء والتسريع في إنجاز كل المشاريع المبرمجة لأنها هي التي ستدر الخيرات غدا مع مراجعة شاملة وشجاعة لنسق عيش الدولة سواء أكان ذلك في الوظيفة العمومية أو في المنشآت العمومية، كما أن الحكومة مطالبة اليوم بمناقشة البرنامج الذي تريد الالتزام به مع صندوق النقد الدولي مع كل شركاء الإنتاج والكفاءات الاقتصادية والمالية حتى نضمن مصالح البلاد دون أن يعني ذلك رفض الإصلاحات والترشيد الجدي لنفقات الدولة ..

اليوم كلنا مسؤولون على إنقاذ السفينة من الغرق،وينبغي أن يكون ذلك أولوية الأولويات..ثم سيحين موعد الحساب الديمقراطي للجميع ،أما استعجال الحساب اليوم دون توفير شروطه الموضوعية فسيأتي على السفينة قبل أن يلامس أطراف المنظومة.

المشاركة في هذا المقال