Print this page

فوضى التلاقيح: ضياع الأولويات وغياب الأساسيات

قلنا في مرات كثيرة أن أهم ما يعوق إنقاذ البلاد بداية ورقيها نهاية هو التراجع الحاد لمنسوب الثقة في كل الاتجاهات وخاصة

بين المواطنين والحكام، ودون تجسير الثقة لا يمكن لنا أن نطمع في أي إصلاح جدي، وبداية هذا التجسير تتمثل في شفافية الحوكمة ومثالية السلوك العام للحكام ..
بهذا المعنى ابتهجنا كثيرا بمنظومة «ايفاكس» باعتبار أنها تحقق هذه الشفافية المطلوبة وتقطع مع نظم الامتيازات التي تسود البلاد..
إن وضع أولويات موضوعية للتلقيح واحترامها التام وعدم التلاعب بها ،كانت كلها شروط أساسية لبناء هذه الثقة المنشودة في أجهزة الدولة .
ولكن ولأسباب لا يمكن لنا أن نفهمها تمت التضحية بالشفافية وبالنزاهة ولم تحترم الدولة حتى سلم الأولويات الذي وضعته بنفسها ونشرته وزارة الصحة على صفحتها الرسمية منذ شهر مارس الماضي..
لقد قسمت وزارة الصحة في أولويات التلقيح المواطنين إلى خمس مجموعات :
«1 - مهنيو الصحة الذين يتعاملون يوميا مع مرضى كوفيد،والمسنون الأكبر من 75 سنة.
2 - الأشخاص بين 60 و75 سنة مع باقي مهنيي الصحة
3 - الأشخاص بين 18 و60 سنة الحاملين لأمراض مزمنة مع مهنيي المصالح الأساسية مثل القوات الحاملة للسلاح والتعليم والنقل وغيرها
4 - الأشخاص المخالطون بصفة وثيقة للأشخاص المعرضين الى خطر مع مهنيي المصالح الأخرى.
5 - الأشخاص بين 18 و60 سنة الذين هم في صحة جيّدة».
ثم نكتشف أن تلقيح رئيس الحكومة يوم 23 أفريل الماضي إنما كان الإعلان «الرسمي» لبداية تلقيح المجموعة الثالثة والتي وضعت على رأس القائمة فيها الأولوية التالية :
أعضاء الحكومة والدواوين الوزارية والمديرون العامون للمنشآت العمومية والولاة والمعتمدون ..
والحال أن آخر معطيات منظومة ايفاكس تفيد بأننا لم نلقح بالنسبة لمن تجاوز سنهم 75 سنة (المجموعة الأولى) سوى %61.1 من المسجلين و%41.5 بالنسبة لمن هم بين 60 و75 سنة (المجموعة الثانية) فكيف تم القفز مباشرة إلى المجموعة الثالثة إذن ؟ !
التفسير «الرسمي» يقوم على مبدإ ضرورة التداخل بين المجموعات نظرا لقلة عدد الباقين فيها !!!
والحال أن الوزارة تفيد أننا إزاء أرقام قد تتجاوز مائتي ألف شخص مع العلم أن معدل التلاقيح اليومية عشرة آلاف في الأقصى بالنسبة لمن يتلقون الجرعة الأولى ..
كان بالإمكان أن نتفهم تلقيح بعض عشرات كبار المسؤولين في الدولة ومنذ البداية ولكن النقض الفعلي لمبدإ التولية الموضوعية أمر لا يمكن قبوله تحت أي ادعاء كان ..
ثم لِم وضعنا أولويات للتلقيح ؟ ولِم فضلنا فيها كبار السن والحاملين لأمراض مزمنة ؟ ببساطة لان هذه الشريحة مهددة في حالة إصابتها بالفيروس بتطوير أعراض خطيرة قد تصل إلى الوفاة في حالات عدة ..فالهدف من الأولويات هو إنقاذ أرواح البشر وحماية منظومتنا الصحية من الانهيار ،ولهذا كان من الضروري تلقيح كل مهنيي الصحة ..
أما بقية الأسلاك الأخرى فلا أولوية لها مطلقا أمام كبار السن وحاملي الأمراض المزمنة فنحن أمام التصرف في ندرة التلقيح وهذا يستوجب بداية تلقيح كل المسجلين من ذوي الأولوية المطلقة وفق معياريين فقط : السن والمرض،ثم العمل على تسجيل أقصى ما يمكن من هذه الفئات وتلقيحهم كذلك عبر عمليات تحسيسية تذهب إلى الأحياء والمنازل حتى ننقذ كل من يمكن إنقاذه ..
ولكن الحكومة اعتبرت أنها قد قامت بالواجب وانه قد آن الأوان لتلقيح يبدأ بأعضائها ويمتد إلى كل مهنيي المصالح الأساسية» ..
والنتيجة أننا سنجد مئات الآلاف من الأمنيين والعسكريين ومهنيي التربية والتعليم والتعليم العالي والنقل يطالبون بأولوية التلقيح قبل غيرهم وسيهددون بالإضراب عن العمل إذا لم ترضخ الحكومة وهكذا سننتقل بقوة من منظومة عقلانية الهدف منها إنقاذ حياة الناس وإنقاذ منظومتنا الصحية من الانهيار إلى محاصصات مهنية وقبلية وترضيات الأطراف الأقوى ونحن مازلنا دوما في حالة ندرة التلاقيح ..
وهكذا نضيع مرة أخرى فرصة عظيمة لبناء الحدّ الأدنى من الثقة بين الحاكم والمحكوم وتتيه أولويات الدولة في حسابات صغيرة وتغيب عنها الأساسيات في التصرف في الشأن العام ..
إن أكبر خاسر في هذه العملية هو تلك الجهود الجبارة والمضنية لكامل منظوماتنا الصحية منذ ما يزيد عن سنة..جهود لم نعمل على إكبارها والسير على منوالها ،بل طعناها في الظهر بهذه السياسات السقيمة ..
ما نهدمه في ساعات معدودة اليوم قد يحتاج غدا إلى سنوات من الجهد والتضحية والصرامة.

المشاركة في هذا المقال