Print this page

10 محطات في الذكرى العاشرة للثورة التونسية: - VI- الدولة المغذية أم الدولة المخططة؟

ارتبط في تونس خلال هذه العشرية سؤال الثورة والدولة، بل تلخص سؤال الثورة : أي ثورة نريد ؟ في سؤال الدولة : أي دولة نريد ؟ وجمّع هذا السؤال الأخير جلّ - إن لم نقل - كل أسئلة تونس اليوم .

وككل الأسئلة المؤسسة تجدنا أمام مفارقات بل إمام إحراجات (apories) يكاد يستحيل فيها الجمع بين حدّي تعريف الدولة التي ننشد في بلادنا.
تقوم الثورة ، كل ثورة ، لا فقط ضدّ السلطة الحاكمة ولكن كذلك ضدّ الدولة القائمة والتي يلخصها الثوار في جملة من الممارسات والسياسات المرفوضة ،ولذلك ينتج عن كل ثورة إضعاف عميق للدولة ويكون نجاح الثورة دائما وأبدا رهين القدرة على إعادة بناء الدولة وفق معادلات جديدة .أما إذا استعادت الدولة عافيتها وفق نفس الآليات التي كانت تحكمها فذلك إيذان في كل الحالات بإجهاض الثورة ونهايتها .
ولكن ضدّ أية سياسات قامت الثورة في تونس ؟
هنا يبدأ الالتباس وتبدأ المفارقات ..
لو نظرنا إلى رمزية الحركة التاريخية التي أدّت إلى الشرارة الأولى وهي إضرام الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده ،لقلنا أن الثورة هي احتجاج على سطوة الدولة وخنقها لكل مبادرة لا تخضع لقوانينها البيروقراطية وتسهيلاتها الزبونية ..فمحمد البوعزيزي لم يكن يطلب شيئا من الدولة سوى أن يُمنح رخصة بائع متجول وألا يتعرض إلى التعسف الاعتباطي للشرطة البلدية،أي انه كان يطالب بفضاء خاص تنسحب منه الدولة كجهاز قمعي وتحضر فيه كمسيرة وضامنة لإمكانية قيام نشاط اقتصادي خاص ..هذا هو حال محمد البوعزيزي وحال مئات الآلاف من أمثاله ..
ولكن سرعان ما نحت احتجاجات الثوار منحى آخر.. فهم يتفقون مع البوعزيزي في احتجاجه ضد سطوة الدولة ويعتبرونها ناهبة وظالمة ولكنهم يريدون في نفس الوقت ومن نفس الدولة ألا تكون فقط ضامنة لإمكانية نشاط اقتصادي خاص بل أن توفر موطن الشغل لا وفق آليات اشتغال الدولة ككائن عقلاني مفارق بل وفق حاجيات المحتجين في منطقة ما وفي زمن ما . فهم لا يطالبون بانسحاب الدولة من فضاء النشاط الاقتصادي بل أن تصبح الدولة هي الفضاء الاقتصادي الشامل والراعي لكل الثوار المحتجين ..
نحن أمام الجدلية المؤسسة لأحد أبعاد الفعل الثوري منذ بداياته الأولى : نريد انسحابا للدولة القامعة المركزية الظالمة مقابل الحضور الكلي للدولة الراعية المشغلة والحانية على كل جهة وكل حي وكل عائلة وكل فرد .. لقد انتقل الهوى الجماعي من الدولة الراعية (l’Etat providence) إلى الدولة المغذية (l’Etat nourricier) .
«الدولة المغذية» كانت خيارا استراتيجيا لبعض الدول منذ عقود وقد ذهبت في ذلك إلى أبعد ما يتضمنه مفهوم «الدولة الراعية» (l’Etat providence) فالدولة المغذية كما بين ذلك الباحثان اندري كورتان وماري بلانش تاهون في كتابهما الصادر عن دار L’Harmattan الصادر بباريس سنة 1988 «الدولة المغذية البروليتاريا والسكان. المكسيك / الجزائر» .
(l’Etat nourricier. prolétariat et population. Mexique/Algérie)
الدولة المغذية إذن تعوض رمزيا الأب المغذي وهي تستأثر بفائض الانتاج (النفط في الجزائر والمنتوجات الغذائية في المكسيك) لترعى بصفة شبه كلية السكان تماما كما يرعى الأب في المجتمعات التقليدية الأسرة .. وهذا لا يعني بالطبع أن الدولة تكتفي بتوزيع الغذاء للسكان بل هي ترعى وسائل عيشهم بفضل فائض الإنتاج الحاصل لديها ..
ولكن في تونس «الدولة المغذية» ليست إستراتيجية اختيارية إرادية للدولة بل هي الدور الذي يطالب به المحتجون من الدولة دون الإقرار برديفه وهو هيمنة الدولة على المجتمع كما هو جوهر مفهوم «الدولة المغذية»..
إذن نحن أمام عملية معكوسة تماما، جزء من المجتمع يفرض على الدولة القيام بدور المغذية وفق شروطه هو لا شروط الدولة ولا يمنحها في المقابل الدور الهيمني المترابط في الصورة العادية مع الدور المغذي . فنشأت عندنا صورة مشوهة للدولة المغذية أو ما يمكن أن نوصفه بالدولة المغذية رغم أنفها ودون إرادة حرة من قبلها أو تخطيط مسبق.
ما حصل في تونس إذن خلال هذه العشرية هو اضطرار الدولة التي لم تعد راعية بالمعنى الكلاسيكي إلى دور الدولة المغذية فقط لتامين الحد الأدنى من السلم الأهلية ولمقايضة سلطاتها النسبية على نزعات التمرد ضدها، أي أنها أضحت شبيهة بساكن المدينة في عصر النهضة الأوروبية الذي يأخذ معه مبلغا معينا من المال كلما غامر بالتجوال خارج الطرق المعبدة حتى يقايض بشيء من المال سلامته الجسدية في صورة تعرض بعض قطاع الطرق سبيله.
فنحن لسنا إزاء دور توزيعي مدروس بل أمام سياسة أخف الأضرار وكسب معركة الوقت عسى أن تستعيد الدولة عافيتها وتفرض من جديد شروط التفاوض على المحتجين على ضعف التنمية أو سوء توزيع مختلف تدخلات الدولة .
في المحصلة نحن بالفعل قد تجازنا مرحلة الدولة الراعية السائدة بنسب متفاوتة قبل الثورة إلى دولة مغذية رغم انفها وترانا نسوق لهذا الشعار جميل خلاب «الدور الاجتماعي للدولة» ولكن كل هذا حصل على حساب بعد أساسي في كل دولة تريد أن تلعب دورا جوهريا في عملية التنمية وهو دور التخطيط والاستشراف ورسم السياسات الضرورية على المديين المتوسط والبعيد .
الدولة المغذية رغم انفها تستنزف كل جهودها في الآني وتفقد تدريجيا كل هامش للتفكير في العقود القادمة لان زمنها النفسي أضحى اللحظة الراهنة وهمها الأساسي هو الصمود أمام موجة الاحتجاجات القادمة.
لقد استبطن قادة الدولة السرعة المجنونة لدورية الحكومات ولوزراء لا يتجاوز معدل مسؤولياتهم السنة فالثمرة المجدية الوحيدة لديهم هي التي تقطف بعد أسابيع معدودات لا بعد سنوات فما بالك بالعقود.
لقد أضحى الإنجاز شعار كل الحكومات المتعاقبة، والإنجاز المقصود هنا هو الإنجاز السريع الذي ترى نتائجه خلال أسابيع قليلة ، ومن ثمة تراجع بصفة لا شعورية في الأغلب الأعم للاستثمار في الذكاء وفي المستقبل والتفكير في الإصلاحات الضرورية التي تؤتي أكلها بعد سنوات وعقود وأصبحت الدولة تعمل وفق مبدإ «كي بوعشّة ومعيزات فين يطيح الليل نبات».
في الحقيقة يكون من الظلم تحميل الحكام أو الطبقة الحاكمة المسؤولية الكاملة لوضع الدولة هذا، بل هناك تظافر إرادات عدة لكي نعيش جميعا فقط اللحظة الحاضرة وأن نفتك ما أمكن من مكاسب آنية تاركين المستقبل في حكم الغيب تفكيرا وتخطيطا واستثمارا .
لقد وصلت الدولة المغذية رغم انفها والتي تنفق أكثر مما تنتج إلى نهايتها .ولم يعد بإمكانها التمويه على نفسها وعلى المجتمع ، إذ حتى لو أرادت أن تواصل في لعب دور الأب المغذي فذلك لن يكون ممكنا في المستقبل القريب لو لم تستعد الدولة – ولو تدريجيا – القدرة على التخطيط والتفكير ،أي أن تستعيد الدولة زمنها الخاص بدلا من الغرق في زمن الساسة والسياسيين .
لعل هذا التحول هو الرهان الأصعب لتونس اليوم. إذ يستوجب وجود نخبة قيادية قادرة على فرض المستقبل كبعد أساسي لكل سياسة عمومية ، بما يعني ذلك من تفكير وتخطيط واستثمار متخلص تماما من ضغط الآني ومن رغبات مختلف المطلبيات المتصارعة اليوم.
«الدولة المخططة» ليست قرارا يأخذه بعضهم في لحظة وعي ..إنها ثقافة حكم جديدة وأولويات وطنية بدعمها العدد الأكبر من المواطنين وحوكمة مختلفة لكل دواليب الدولة وإصلاح في العمق للإدارة وتعريف جديد لدورها التنموي .
«الدولة المخططة» هي بنى تحتية وبنى فوقية في نفس الوقت ..إنها أفكار وخطط واستثمارات تبدأ بثورة مدرسية وتكوينية تهدف إلى التفوق والانتصار في المنافسة العالمية وتضع العلم والعقل في عمق السياسات كلها ..
إن أزمة الدولة اليوم إن هي إلا أزمة النخب فقط لا غير. إنها أزمة فكر لا أزمة مال ..
(يتبع)
VII- في المنوال التنموي الجديد

المشاركة في هذا المقال