Print this page

في وحدة الدولة ووحــدة قــراراتها

عرّف الفلاسفة الدولة باعتبارها كائنا مفارقا متعاليا بل هي التنين كما الحال عند الفيلسوف الانقليزي هوبز وهي العقل عند هيغل فهي كالحكمة غاية التاريخ ومنتهاه..

لن ننغمس كثيرا في الميتافيزيقا أو في فلسفة العقد الاجتماعي فما يهمنا هنا هو أن ما نصطلح عليه بالدولة يتجاوز السلطة في مفهومها المادي المباشر إلى نوع من الانتظام العقلاني الذي يسعى لتحقيق الفاعلية القصوى بأقل طاقة ممكنة ،فالدولة آلة لا تسمح -نظريا على الأقل - بإهدار الطاقة وتشتيتها ..
ولكن الوضع في بلادنا على غير هذه الصورة ،فأزمة أزماتنا هي إهدار الطاقة وتشتيت الجهد بتعدد مراكز القرار وبتناقضها إلى حدّ نشر غسيلها على قارعة الطريق ..

لابدّ من الإقرار بأن حكم البلاد أضحى عسيرا جدّا بعد الثورة بحكم تفاقم الاحتجاجات من كل نوع وصنف ثم انضاف إلى هذا الصراع بين مختلف أجنحة السلطة التنفيذية وذلك منذ زمن الترويكا والصراع بين راسي السلطة التنفيذية : حمادي الجبالي والمنصف المرزوقي إلى اليوم ..بل لعل فترات الانسجام الظاهر في السلطة التنفيذية لا تكاد تمثل حتى %20 من هذه العشرية ..

ولكن لكل أزمة ديناميكيتها الخاصة وكان من «المعقول» الا يقف هذا التنازع عند راسي التنفيذية بل تجاوزه إلى كل مستوياتها مركزيا وجهوريا ومحليا ، وهذا التنازع كجبل الثلج المخفي منه اكبر بكثير من الظاهر والصامت فيه أخطر في جل الحالات من المدوي والمشهدي ..
فالتنازع الصامت هو الذي يفسر فقدان الدولة لفاعليتها المنتظرة فتنقطع سلسلة القيادة وتتبعثر سلسلة الأوامر فلا تجد بذلك القرارات المركزية مجال تنفيذها الكامل والشامل وذلك ما يفسر ضعف الدولة الذي يلاحظه الجميع بالعين المجردة.

الإشكال ان الدولة ككائن مفارق لا وجود له في الواقع الملموس للناس بل نجد مؤسسات يقودها بشر يخضعون لتأثيرات شتى جلها لا علاقة له بالعقل ولا حتى أحيانا بالمعقولية،واقع ملموس تتقاذفه الأهواء والأطماع وحسابات السلطة المادية والمعنوية فينعكس على أداء المؤسسات وعلى ما نسميه بالدولة بشكل عام ..

في هذه المراحل الدقيقة والأزمات المتفاقمة يكون العنصر البشري هو العامل المحدد إما لتعكير إضافي لوضعية ما او للإسهام الفردي في ابتكار حل للخروج من أزمة أو للتخفيف من أثارها.. ولكن القاعدة العامة – للأسف– في مثل هذه الوضعيات هي تكاثر الصنف الأول في المواقع المتقدمة للنفوذ بكل أصنافها التنفيذية والتشريعية والحزبية وغيرها أمّا الصنف الثاني فعلاوة على ندرته الطبيعية تجد أصحابه يعزفون عن تحمل المسؤوليات في وضعيات الانفلاتات العامة التي نعيشها ..

ما يُطلب من اصحاب السلطة ليس العبقرية أو الذكاء الخارق بل فقط خدمة الصالح العام دون نرجسية مفرطة لان السلطة تفرض العمل الجماعي والانسجام الأدنى بين ذوات قد لا يجمعها شيء على المستوى الشخصي ..
العقل – نظريا – هو الذي يسمح بالترفع عن ضغوطات الأهواء ونرجسية الأنا .. ولكن الإنسان ليس دائما ذلك الحيوان العاقل الذي تحدث عنه الفلاسفة ..

المشاركة في هذا المقال