Print this page

ملف الكامور والخيارات السياسية المترددة : وقفت الزنقة للهــارب

المشهد الحالي في تونس قد لا يختلف كثيرا عن مشهد لأطباء مجتمعين حول «مريض» كل منهم من هو منغمس في تقديم تشخيص

لأمراضه المزمنة والمستعصية والعلاج الممكن ويغفل عن ان النزيف اوشك ان يؤدى بحياة المريض ، هذا هو الحال في بلد انهك بالمطلبية والخيارات الشعبوية لساسته الذين سوقوا للوهم مقابل سلم اجتماعي لن يستقيم ويد الدولة مرتعشة.
الامثلة التي تجسد هذا التشبيه تُعد بالمئات في تونس على مدى السنوات العشر الفارطة، ولكن اخرها كان امس الخميس، اذ حمل لنا اليوم خبرين مترابطين اولهما قيام عدد من المعتصمين في الفوار بمنع شاحنات نقل المحروقات من الدخول الى الحقول ونقل البترول الخام منع مرده تمسك المعتصمين بتطبيق اتفاق 16 جوان 2017 المبرم بينهم وبين حكومة الشاهد والذي ينص على توظيف حوالي 3000 شخص بين شركة البيئة والغراسات و البستنة، والشركات البترولية، ولتحقيق ذلك قام المحتجون منذ 17 جويلية الفارط بغلق المضخة عدد 4 وإيقاف نقل المواد البترولية والغاز المنتج من حقول ولاية تطاوين.
وضع استمر منذ حوالي الشهرين، وهو ما استندت اليه الشركة البتروليّة النمساويّة «OMV» تونس، في إشعارها بنيتها إيقاف أعوانها عن العمل خلال الايام القادمة بعد تعذر سداد الاجور في ظل توقف الانتاج. ليلتحق حوالي 2000 موظّف بصفوف العاطلين عن العمل وفق ما اعلنه حامد ماطري المستشار لدى وزير الصناعة والطاقة الذي قال أنّ الشركة تتجه ايضا لإيقاف عملها في حقل «نوّارة». وهذا هو الحدث الثاني.
ليس الحدثان ( اللذين سبقتهما تطورات عدة) ولا خلفيتهما والمراد منها ولا مشروعية تحركات ومطالب كل فاعل فيهما محل النقاش او الجدل ، فمن حق العاطلين عن العمل في تطاوين الاحتجاج والمطالبة بالتنمية ومن حق الشركات البترولية ان تلوح بالغلق النهائي للحقول طالما انها غير قادرة على العمل بنسق عادي مع احترامها لقانون الشغل التونسي وتطبيقا لبنوده.

الاشكال هنا ان هذه النهاية التي نتجه اليها، كانت معلومة منذ البداية، منذ ان رسخت الطبقة السياسية والحاكمة في تونس منطق المغالبة وابتزاز الدولة سواء لشراء سلم اجتماعي او لإحراج خصم سياسي، واختارت ان تسوق لوهم عوض تقديم بديل حقيقي يضمن خلق الثروة قبل توزيعها العادل.
وهم انطلق منذ ان اختارت الحكومة السابقة وكل الحكومات التي سبقتها، ان تدفع ما لا تملك ثمنا لسلم اجتماعي هش، وان تشجع بشكل مباشر على نشر ثقافة الغنيمة في اوساط التونسيين الذين، سُوق لهم ان الدولة غنية وان نصيبهم من ثروتها متوفر فقط إذا احتجوا وجعلوا الدولة ترضخ وهي التي تعاني من لحظة ضعف طال أمدها .
وهم شجعته الاحزاب السياسية التي وفي صراعاتها البينية وتجاذباتها احرقت الارض وغفلت عن انها سترثها، تماما مثل ما فعل مجلس النواب بقانون الانتداب الجديد ، وقس على ذلك خيارات وقرارات اتخذت في اطار مناكفات سياسية بين متصارعين على حكم في دولة كل مؤشراتها الاقتصادية في الاحمر منذ 2011.
وهم لازال الى اليوم يسوق للتونسيين بان الدولة غنية ولها مواد ضخمة قادرة على توفير الرفاه لهم لكن « الأطراف» والآخرين استولوا على هذه الثروات ، مما عمق ازمة الثقة التي بدورها غذت التيارات الشعبوية التي تعد التونسيين بالمن والسلوى وهم في منازلهم.
وهم تغذى طوال عشر سنوات كانت الطبقة الحاكمة والسياسية فيها تتنافسان عما يسوق اكثر لدولة الريع. دولة توزع ما لا تملك ، توزع ثروة لم تخلق بعد ، بل انها استنزفت مدخراتها وأنهكت موازنتها لا في مشاريع تنموية تخلق الثروة ومواطن شغل فعلية بل في نفقات وأجور لوظائف وهمية ، كالعمل في شركات البستنة والغراسات، او اغراق الادارة بانتدابات عشوائية غير ذات جدوى ودون مردودية وقس على ذلك...
هذا الوهم الذي عاشت فيه الدولة سنواتها العشر الماضية، لم يعد من الممكن استمراره تحت شعار شراء السلم الاجتماعي عبر مسكنات لا تعالج الاشكال الفعلي والحقيقي وهو غياب منوال تنمية يحقق الرفاه للتونسيين. منوال تنمية يقوم على تعظيم العمل وثقافته ولا على الاتكالية. منوال يخلق الثروة ويضمن توزيعها العادل والمنصف ، ولا منوالا يفقر التونسيين اكثر لصالح لوبيات ، منوال يقوم على توفير القيمة المضافة وليس الاقتصار على التجارة والاستيراد والتهريب والاقتصاد غير المنظم وضرب المؤسسات الوطنية.
منوال يستوجب الشروع اليوم وهنا في الاصلاحات الكبرى ، في اصلاح المؤسسات العمومية والمنظومة الجبائية وفي التعليم والصحة والنقل والمنظومة البنكية والمنظومة القضائية، والقطع مع المطلبية المجحفة والقطاعية التي تحول دون الشروع في أي اصلاح.
ما حمله امس قد يكون الانذار الاخير لتدارك ما فات وتجنب الترفيع في كلفة الاصلاح اكثر مما هي عليه اليوم، ما حمله امس هو إعلان بأن «الزنقة وقفت للهارب» وأننا غير قادرين على الاستمرار.

المشاركة في هذا المقال