Print this page

لقد جدّ وقت الجدّ !

لقد عمدت كل حكومات ما بعد الثورة إلى الشعار التالي «خليو الحكومة تخدم» و«يزيو من حطّان العصا في العجلة»

وأن الإصلاحات التي ستشرع فيها لن تؤتي أكلها قبل فترة معقولة من الزمن ..ولكن لم يمنح التونسيون كل الحكومات المتعاقبة المهلة الزمنية التي كان يطالب بها الحكام بل حكموا عليهم بالفشل منذ خطواتهم الأولى ولم تكن مدة حياة كل حكومة كافية لتكذيب هذا الحكم الأول حتى وإن اعتقدت أنها كانت الأفضل وحققت الأحسن الممكن وفق اكراهات النافذة الزمنية والاجتماعية التي أتيحت لها.

من مفارقات الزمن أن أزمة الكورونا والتي ستتسبب في أكبر انكماش لاقتصادنا (ولاقتصاديات العالم كذلك) منذ الاستقلال كانت في ذات الوقت نوعا من المهلة الموضوعية لحكومة الفخفاخ وسمحت لها بتحقيق أول انجاز لها بالنظر إلى المحصلة الأولية الصحية لهذه الجائحة الكونية ..

ولكن هذا «الخبز الأبيض» ما كان له أن يدوم أكثر ممّا دام وعادت كل ملفات البلاد الحارقة على طاولة أصحاب الحكم وأفقنا جميعا – بنسب متفاوتة – من هذا الكابوس المتعلق بثنائية المرض والموت والمُظهر أكثر من غيره لما يمكن أن نسميه بحدودية الوجود الإنساني (la finitude de l’homme) إلى الحياة العادية بزخمها وصخبها .
مشاكل تونس ما قبل الكورونا قائمة كلها بل زادت تفاقما وجوهرها هو التباعد شبه المطلق بين تطلعات وطلبات ومطلبيات كل التونسيين والإمكانيات المحدودة للبلاد ولحدود السياسات العمومية ذات التأثير المباشر والواضح على محيط حياة الناس.

كل حكومة جاءتنا بتصورات وإجراءات وسياسات ولا نعتقد أن حكومة واحدة أرادت أن تفشل في تحسين وضع الاقتصاد والناس ولكنها عجزت كلها عن إحداث تغيير ملموس كمي أو نوعي فغرقت في أوحال اليومي منتقلة من «حريق» إلى آخر تحاول إطفاءه بما أمكن حتى لو لزم الأمر بإنفاق ما لا تملك سعيا وراء سراب سلم اجتماعية لم تحصل إلى حد الآن واعتقادا بان هذه السلم الأهلية المزعومة هي شجرة الخلد والملك الذي لا يبلى..

كل الحكومات ادعت وتدعي أنها في قطيعة مع ما سبق وأننا سوف نرى معها المعالي، وكلها دخلت في صراعات الحدود والوجود إما مع مكوناتها أو مع معارضيها أو مع الاثنين معا فلا قطيعة حدثت ولا واصلت مراكمة الجهد الذي حصل قبلها.
في النتيجة اضاعت تونس عقدا من الزمن لإعادة بناء قدراتنا الاقتصادية وتنمية عادلة وإدماجية لمختلف الفئات والجهات وتمكين النساء واصلاح منظوماتنا التربوية والتكوينية والاجتماعية ..

والسؤال الجدي الوحيد اليوم هل نعيد نفس التجربة ونفس الأخطاء مرة أخرى ونضيع على أنفسنا خمس سنوات أضافية أم نتوقف عن هذا الانتحار الجماعي البطيء ونضع بين قوسين كل الحسابات الصغيرة الشخصية والحزبية والعقائدية بين قوسين؟

الإشكال في تونس لا يكمن بالأساس في الحلول الاقتصادية الافتراضية – رغم أن هنالك ما يقال في هذا المجال – ولكن في مقبولية كل الأطراف بفترة الانتظار الضرورية لإعادة البناء .. أي أن الإشكال الأساسي هو في توفر شرط الثقة بين كل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والنخب من جهة والسلط العمومية من جهة أخرى.
الثقة هي المفتاح الأول لكل شيء، ولكن هنالك عنصر إضافي بالنسبة لعموم التونسيين وهو استنفاد رصيد الثقة من الدولة وأن استعادة جزء من الثقة يتطلب الانجاز القبلي وهذا هو الإحراج الحقيقي أي الاستحالة المنطقية ما دام السبب (الثقة) هو النتيجة في ذات الوقت..

الخطب الجميلة والوعود الوردية لم تعد تقنع أحدا ، فالمشكلة ليست في خارطة طريق اقتصادية اجتماعية قد تؤتي أكلها بعد سنوات بل في الخطوات الأولى التي تنطلق اليوم ، في المصارحة الفعلية بإمكانيات الدولة وفي كيفية التصرف فيها وفي الحلول الوقتية الضرورية والتي لا ينبغي أن تتناقض مع الحلول الإستراتيجية كما هو الحال مع هذه البدعة التونسية المتمثلة في شركات العمل الوهمي والمسماة بشركات البيئة والبستنة والغراسة ..

لا نعتقد أن شروط توافق أدنى متوفرة اليوم حول أنجع الطرق لإصلاح أوضاع البلاد وهنا لا يوجد أمام الحكومة إلا حلان : مراوحة في نفس المكان حتى لا نغضب أحدا أو تقديم مشروع عقلاني مرقم وقابل للانجاز والمراقبة والانطلاق في تحقيقه مهما كانت الاحترازات والمعارضات والتحفظات ..
بداية الأجوبة سنجدها –أو هكذا نتمنى– في خطاب رئيس الحكومة يوم 25 جوان أمام مجلس نواب الشعب ..

المشاركة في هذا المقال