Print this page

هل سيفشل الغنوشي في ما فشل فيه بورقيبة؟

كان المرحوم عبد القادر الزغل يتندر دائما بالقول أن راشد الغنوشي هو "الإبن غير الشرعي لبورقيبة"، وكان الغنوشي يردد ما قاله عبد القادر الزغل

تعويما للشحنة الأخلاقية في العبارة، وسعيا لجني بعض ثمار رمزية الزعامة البورقيبية. وفي الحقيقة كان الزغل يقصد أن الغنوشي خرج من المدرسة التي أرادها بورقيبة للتونسيين وهو يحمل جينات الحداثة، لكنه تلوينته الجينة السياسية حملت أيضا عناصر من التاريخ الثقافي التي ثار عليها بورقيبة، وهي التمثل التقليدي للعقيدة والمرجعية السياسية المتخطية لحدود كيان "الأمة التونسية"، العروبة والخلافة الإسلامية.

لقد حارب بورقيبة "ابنه غير الشرعي" طيلة أكثر من عقد ونصف (واصل سلفه بعده الحرب نفسها أكثر من عشرين سنة أخرى)، ولم يعترف به مطلقا، وحاول حتى قتله والتخلص من "فضيحته". لكن إرادة الأفراد لا يمكنها أن تنتصر على جينات التاريخ، فلا بورقيبة كان ينكر التاريخ الثقافي العربي الإسلامي لتونس (كان يطرب للقرآن والسُلامية ويعشق المتنبي)، ولا جينات الحداثة انتصرت على تمثل راشد الغنوشي للعقيدة وتوظيفها السياسي. وقد عادت بعد الثورة نفس عناصر الجينات تبحث لها عن تركيبة جديدة تستوعب بشكل مبتكر جينات التاريخ والحداثة، وهي اليوم في طور المخاض رغم صراخ ولغط من رضوا لأنفسهم -عن وعي أو عن غير وعي- أن يكونوا حطبا في معارك شرق وغرب تونس.
لكن جينات بورقيبة التي أورثها "لابنه غير الشرعي" لا تظهر ملامحها على مستوى ماكرو سوسيولوجي ثقافي فقط، بل يمكن مشاهدتها على مستوى فردي ضيق، إنها لصيقة جدا بتمثل الذات وبممارسة السياسة. واليوم تتبدى هذه العناصر من الإرث الجيني الأكثر التحاما بجينات بورقيبة في الكيفية التي يدير بها راشد الغنوشي أزمة القيادة في التنظيم السياسي الذي ظل مدبره الأساسي طيلة ما يقارب الخمسين سنة، أي تقريبا نفس الفترة التي كان بورقيبة قد قضاها على رأس الحزب الدستوري. ما هو العنصر القوي في هذه الجينات المميزة؟ إنها جينة الزعامة، المتلبسة بفكرة الرسالة بخلفيتها النبوية المحمدية الغائرة في المخيال السياسي، والمشحونة برهاناتها الذاتية وعنفها وملذاتها الغامضة.

في التاريخ السياسي العربي-الإسلامي الكلاسيكي تقوم الزعامة على بناء و/أو وراثة المجد العائلي، وصناعة الأتباع والعصبية ومراكمة الموارد وممارسة العنف، وهذه الآليات لا تفترض تداولا على القيادة- إلا في القليل النادر وعبر تفعيل العنف الرمزي- بل تؤخذ الرئاسة غلابا، وتتبعها البيعة من رجال الدين والولاء من القادة المحليين، وهي زعامة نشطة لا تتوقف أبدا عن الذود عن نفسها ببذل المال والعنف ونسج الولاءات وإذكاء الصراعات وتوجيهها.

في عصر حركات التحرير فُتحت ثغرة سوسيولوجية كبيرة في الجدار الاسمنتي لهذا البناء، ليخترع زعماء جدد، تشبعوا بالمفاهيم السياسية للعصر وينحدرون من أصول إجتماعية متوسطة أو سفلى، مفاهيم الشعب والجماهير، ليرتفعوا بهذه القوة الجديدة إلى السلطة، قافزين من فوق المجد العائلي، والعصبية والسلاح -الذين تفككت مواردهما، ورجال الدين (كان بورقيبة يسخر من بَلْدية تونس المحافظين والفاشلين سياسيا، وكانت عُملة فرحات حشاد: أحبك يا شعب).

لكن ما تغير هو آليات بناء الزعامة وكيفية الوصول إلى السلطة، أما مفهوم الزعامة في حد ذاته، الذي يقضي بأن يكون للزعيم أتباع، وأن يتحول بهم ولهم إلى منتج ومحتكر للسلطة و"للفكرة الصائبة"، وأن يناضل طول عمره من أجل أن يبقى زعيما نشطا، لا يرى نهاية لزعامته مثلما لا يرى أي عاهل نهاية لقدرته على الإخصاب، فقد ظلت على حالها ووقفت حائلا أمام بناء الديمقراطية، التي من أسسها تعدد الزعماء، وخضوعهم لقوانين اللعبة التي ليسوا هم من يضعها، وقبولهم بالتالي بفكرة تسليم القيادة لغيرهم وفق ما يفرضه الدستور: في خطابه أمام مجلس منظمة الوحدة الإفريقية سنة 2015 سخر أوباما من الرؤساء العجائز الجالسين أمامه قائلا: أنا رئيس أعتبر نفسي رئيسا ناجحا، وقد خدمت جيدا بلادي، وربما أربح الانتخابات لو ترشحت مرة ثالثة للرئاسة، لكن القانون يمنعني من ذلك ويجب احترام القانون.

ميزة الزعامة بالمفهوم الذي ورثه بورقيبة وأورثه "لابنه غير الشرعي" راشد الغنوشي، أنها تُصمم قانون اللعبة وفق ما يسمح لها بالاستمرار في النشاط والفاعليه، مسنودة في ذلك بالأتباع الذين ينتفعون من زعامته ويصبحون في النهاية متحكمين في مصيره كما هو متحكم في مصيرهم. فهذا النوع من الزعامة لا ينبغي أن تحكمه القوانين، فبورقيبة كان يقول أن

رسالته تاريخية، جذورها عند ماسينيسا وفرعها في الدولة التي يقول أنها هو، والقذافي كان يقول أنه زعيم أممي، صاحب رسالة خالدة، وهو ليس رئيسا منتخبا ولا حاجة له بالدستور. ومثلهم راشد الغنوشي، فهو زعيم ديني-سياسي، يرى في نفسه صاحب رسالة تاريخية دينية خالدة، موضوعها إعادة مجد الإسلام والخلافة، وهو مشروع أوسع من الدولة والدستور الذين يمكن أن يضعا حدا لهذا الطموح ولاستمرار زعامته النشطة.

في الممارسة فشل بورقيبة في وضع أسس لديمقراطية فتية تقوم على تعدد الزعماء وعلى التداول على القيادة. وهذا الفشل مزروع بشكل أصلي في بنية الحزب الذي بناه (لقد اشتكى أحمد بن صالح من سعي بورقيبة الدؤوب إلى وضع حد لسقف طموحه السياسي). ففي بداية السبعينيات حدثت الأزمة الشهيرة في صلب الحزب الإشتراكي الدستوري برئاسة بورقيبة، وبرزت طموحات من داخل الحزب تريد أن تشق لنفسها طريقا داخل المنظومة توصلها إلى مرتبة القيادة العليا (المستيري ومن كانوا معه)، ورُفع شعار الديمقراطية داخل الحزب من خلال الدعوة إلى انتخاب أعضاء المكتب السياسي، خلافا لما كان ساريا من قبل حيث كان الزعيم يختار الفريق الذي يعمل معه وفق حساباته الخاصة، التي تراعي التوازنات داخل الأتباع والتنظيم وتضمن احتكار الزعامة النشطة. لكن بورقيبة رفض وبكى، واختار التضحية بالأتباع الطموحين الغاضبين، فكتب لاحقا أحمد المستيري في جريدته، مستوحيا دانتون في الثورة الفرنسية: "الحزب يأكل نفسه بنفسه". فكان ذلك فشلا ذريعا للزعامة المطلقة، التي ترفض الاحتكام إلى قواعد لعبة مستقلة عن إرادتها، وكان إعلانا عن نهاية مجد بورقيبة.

واليوم وبعد أكثر من أربعين سنة على الفشل التاريخي للزعامة البورقيبية، يواجه راشد الغنوشي نفس الامتحان في حزبه، ومن المتوقع أن تدفع جينات بورقيبة "ابنه غير الشرعي" إلى السير على نفس خطى "الأب". فالرهان داخل الحزب يتعلق ب "حق" الزعيم من عدمه في أن يكون استثنائيا متجاوزا للقانون، وفي اختيار أعضاء المكتب التنفيذي "الخُلص"، الذين سيواصل بهم قيادة الحزب وتفعيل طموحاته الخاصة. وقد بكى الغنوشي، متوجسا من هذا الامتحان، في أحضان عبد الحميد الجلاصي، و كان يرى فيه أحد العُمرين ليتحقق له التمديد في رئاسة الحزب وبلوغ أفقا أبعد. لكن البشائر الأولى لنتيجة الامتحان تنبئ بأن جينات "الأب غير الشرعي" ستفعل فعلها، وأن استثنائية الزعيم ستنتصر، مثلما يقول مخيال أصحاب الرسالة. ومثل أحمد المستيري بإمكان عبد الحميد الجلاصي الذي استقال من الحزب لنفس الأسباب التي حفت بخروج الأول من الحزب الدستوري أن يكتب: "الحزب يأكل نفسه بنفسه".

أكثر من أي وقت مضى تحتاج تونس اليوم، وفقا لأهداف الثورة، إلى القطع مع نموذج الزعامة الأبدية، وإلى إنتاج قيادات متعددة، تصنعها قواعد اللعبة التي يحددها الشعب، لا قواعد اللعبة التي يحددها الزعيم المطلق.... ثم ينقضها.

المشاركة في هذا المقال