Print this page

تونس أمام التحديات الهيكلية

تفتح تونس صفحة جديدة من تاريخها بعد أن أعادت الانتخابات الأخيرة صياغة المشهد السياسي كلّيا فترأس رجل جديد الجمهورية وأمسك بزمام الأمور.

وصل هذا الأخير عبر موجة شعبية هائلة جسّدت في أعين منتخبيه قطيعة ثلاثية : جيلية وإيديولوجية وجيوسياسية.
وتتماشى انتظارات ناخبيه مع ثقتهم وكلتاهما باهضتين حيث تتراوح المطالب بين إعادة الاعتبار والشغل الكريم، والعدالة الاجتماعية وصولا إلى تحسين ظروف المعيشة.
وتتجاوز كلّ هذه الإنتظارات الصلاحيات الدستورية لرئيس الدولة، لكن ذلك لا يهم، حيث أننا هنا خارج مجال العقلانية.
وفي ظلّ هذه التحولات خرج البرلمان مجزأ ومحافظا بشكل عميق و شعبوًيّا إلى حد كبير، وستكون الحكومة المنبثقة عنه هشة تفتقد إلى أغلبية حقيقية تدعمها وسيبقى مشروعها السياسي غامضا وسطحيّا حتّى لا تغضب أحدا من حلفائها.
ومع ذلك، يتعين على تونس مواجهة إرث مالي واقتصادي واجتماعي ثقلت أوزاره.
في ظل هذه الظروف، وجب تشخيص الإرث بأهم عناصره وجرد التحديات التي يطرحها أمام الحكام الجدد.
مثّل التشغيل، تاريخيا ولا يزال، معضلة تونس التاريخية حيث حيث تدهورت حالته منذ سنة 2011. فارتفعت نسبة البطالة في غضون التسع سنوات الأخيرة، من 13 ٪ من القوى العاملة إلى 15.5 ٪ وتضرب البطالة دون رحمة الشباب والنساء وحاملي الشهادات كما تضرب المناطق الداخلية، مما يزيد من الشعور بالاقصاء لدى كل هذه الفئات.
وقد تمادى النمو بطيئا، فعلى الرغم من أن 2019 تعد سنة فلاحية وسياحية ممتازة، إلا أنّ نسبة النّموّ لم تتجاوز الحد المتواضع البالغ 1.2 ٪ و تبقى بعيدة كل البعد عن نسب نمو سنوات بن علي التي كانت تبلغ حوالي 4.5 ٪ سنويًا ، وكانت بالرغم من ذلك غير كافية للحد من البطالة ودفع تونس نحو الإقلاع الاقتصادي. والأهم من ذلك أنّ القدرة التنموية للاقتصاد التونسي قد تراجعت إلى نسبة 2.5 ٪ سنويًا بعد أن كانت تقدر سابقًا ب 4.5 ٪ وهذا يعني صراحة أنّه لن يمكننا الرفع من أداء اقتصادنا والرجوع الى نسب أعلى للنمو دون القيام بإصلاحات هيكلية وجوهرية ترفع من هذا السقف البلوري الذي يقف حاجزا أمامنا جميعا.
وقد تفاقم العجز التجاري ووصل إلى رقم قياسي تاريخي قدره 17.8 مليار دينار خلال الأشهر الـ 11 الأولى من 2019 وهو ما يناهز على نحو سنوي 17 ٪ من الناتج الداخلي الخام إذ لم تنجح التدابير الإدارية المعتمدة في كبحه: لا الضغط عَلى التحويلات إلى الخارج ،ولا التخفيض الكبير في قيمة الدينار لسنوات، ولا الزيادة اللا معهودة في مستوى النسبة المديرية للبنك المركزي أو حتى التراجع الشديد لمستوى القروض البنكية.
وتسارع التضخم بعد أن ناهز 8 ٪ في السنة وعاد في ثمانية عشر شهرا من علاج عنيف إلى ما يزيد قليلا عن 6 ٪ ولا يزال هذا الانخفاض هشا وغير كاف. وكان التضخم مثل العجز التجاري مرتبطا ارتباطًا وثيقًا بضعف الانتاج والعرض في مواجهة الطلب المتزايد كما أن كل العلاجات التي تلقاها غير كافية إذ أنها لا تهتم بالمجال المالي وسيظل تأثير كل هذه العلاجات ضئيلا بينما يتطلب الحل الحقيقي سياسة اقتصادية جريئة مع دفع قطاعي قوي ومتميز للعرض.
وقد تراجع التصنيع في البلاد على مسار مطّرد. فمنذ سنة 2010 ، انخفضت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 11.3 ٪ وظلت تونس تخرج ببطء ولكن ،للأسف، بثبات من رادارات البلدان الصناعية.
ومازالت السياحة تعاني من الديون ورداءة حوكمة القطاع. إنّ إنتعاشة القطاع في العامين الأخيرين على مستوى الواردين الغير المقيمين، حتى و إن كانت مفيدة ومرحبًا بها، تبقى هشّة وغير مستدامة طالما لم تحل أي من المشاكل الأساسية لهذا القطاع.
وتكاد المؤسسات العمومية أن تنهار، ممزقة بين التدخل العشوائي لسلط الإشراف وتشبث الشركاء الاجتماعيين بالوضع الحالي لذلك ازداد عجزها وأظلم أفقها يوما بعد يوم.
أما الصناديق الاجتماعية فهي في حالة يرثى لها فالحوار صعب بين الحكومة والشركاء الاجتماعيين، وسوء الحوكمة مع إنعدام وجود الرؤية لا يسمحان إلا باصلاحات ترقيعية وغير فعالة لمواجهة العلل الهيكلية الكبرى.
وقد انفجر الدين العام والخارجي بين سنة 2010 ونهاية 2018 إذ ارتفع الدين الخارجي من 48.5 ٪ من الناتج الداخلي الخام إلى ما يقارب 100 ٪. خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2019 ، زادت خدمة الدين الخارجي بمعدل 40 ٪ في السنة، ليصل إلى الرقم القياسي وهو 8 مليار دينار.
تعافى الدينار مع ارتفاع بنسبة 8.7 ٪ مقابل اليورو ، منذ بداية السنة. إلاّ انّ ذلك يبقى ظرفيّا وغير مستدام طالما ظلّت العوامل الأساسية سلبية، مثل فارق التضخم بين تونس ومنطقة اليورو أو عجز الحساب الجاري.
كما ارتفعت كتلة الأجور في الوظيفة العمومية على الرغم من الالتزامات المتكررة للحكومة مع صندوق النقد الدولي لسنة 2019 لتصل إلى 15.2 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وتضعها التوقعات المصححة لسنة 2020 عند حدود 15.4 ٪ ، شريطة أن يكون النمو المبرمج في الموعد.
وقد انهارت الوظيفة العمومية تحت وطأة الإنتدابات الحزبية في السنوات الأولى بعد الثورة. وباستثناء المرتبات ، لم تعد ميزانية الدولة ضامنة للحدّ الأدنى من النفقات من أجل التشغيل الفعّال للإدارة. فأصبحت الدولة مكلفة أكثر فأكثر، مقابل خدمة تقدمها للمواطن بجودة أقل فأقل وأصبح العبء الضريبي على الاقتصاد الرسمي غير محتمل فبين سنتي 2010 و 2019 ، ارتفع وزن الرسوم الإجبارية (الضرائب والمساهمات الاجتماعية) من 27.2 ٪ من الناتج الداخلي الخام إلى أكثر من 37 ٪.
كما انخفض الاستثمار والادخار بصفة حادة فبين سنتي 2010 و 2019 ، تراجع معدل الاستثمار من 24 إلى 18.4 ٪ من الناتج الدّاخلي الخام و انهار الادخار من 21 ٪ إلى أقل من 8 ٪.
وانخفض الاستثمار العمومي، ويعزى انخفاضه بانتظام إلى تدهور قدرة الإدارة على الاستيعاب والتراجع في نسق تنفيذ المشاريع. وفي الواقع، ركّزت الدولة اهتماماتها على استعادة توازناتها المالية، في مواجهة مطالب الجهات المقرضة، أكثر من التركيز على الانتعاش الاقتصادي الحقيقي. فأضحى الاستثمار العمومي العجلة الخامسة لعربة الرفع من أداء الاقتصاد.
كما توقفت الإصلاحات، الهيكلية منها كما أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من تنفيذ وعودها الإصلاحية بسبب افتقارها الإقتناع والكفاءة والبيداغوجيا.
أصبح الاقتصاد غير الرسمي أخطبوطا مترامي الأطراف، فاق وزنه ثلث الاقتصاد الجملي. وهو ناجم للجزء الأكبر منه عن البيروقراطية والاجراءات البالية والقيود المفروضة على ريادة الأعمال. وهو يضعف سلطة الدولة ، ويستحوذ على مداخيلها ، ويتنافس دون عدالة مع المؤسسة المنظمة ويضر بالبيئة وصحة الناس.
لقد فقدت تونس الكثير من قدرتها التنافسية وتراجعت في كل الترتيبات الدولية و لم تعد المرجع الإقليمي.
تبدو تونس أمام عالم يتغير بوتيرة محمومة، كما لو كانت مشلولة. فهي تبدو منغلقة أمام التغيير، فبعض قوانينها، الموروثة من زمن سحيق، تشوه روح ونص دستور 2014. وهي لا تتوافق لا مع أفضل الممارسات الدولية ولا مع متطلبات شبابها ورجال أعمالها المنفتحين على العولمة و المقيدين بأحكام بالية وغير ملائمة.
إن تراكم الإجراءات القانونية والتراتيب الإدارية أصبح خانقا، ممكّنا الجزء الرديء من الإدارة من القطع مع روح المبادرة ومن الامتناع عن أخذ المخاطرة، و في نفس الوقت مشجعا على الفساد ودافعا نحو الطرق الموازية والملتوية.
وقد أصبحت فكرة المغادرة تغري المكونات الأكثر ديناميكية في المجتمع. فأفضى ذلك الى هجرة عشرات الآلاف من أفضل الكفاءات التونسية سواء أكان ذلك عن طريق الهجرة القانونية فيكونون مرحبا بهم وذلك من نصيب الأوفر حظا، أو عن طريق هجرة غير قانونية ومرفوضة لدى الاغلبية الساحقة.
هذه هي حال الأمّة اليوم. تراجع عدد الذين يخفون شعورهم بالإحباط بسبب انعدام الرؤية وغياب مشروع التجديد سواء أكانوا من بين روّاد الأعمال أوالمصرفيين أوالإطارات العليا ولكن أيضًا من بين ممثلي المؤسسات الدولية أو الدبلوماسيين المعتمدين في تونس.
إنّ الإصلاحات سياسية بالأساس قبل أن تكون تقنية ولا يمكن أن تكون إلاّ في خدمة تصوّر مجتمعي واضح الملامح. لقد ذاق التونسيون الحرية و لن يقبلوا بالليبرالية الوحشية ولا بتدهور ظروفهم المعيشية تفترض الإصلاحات الوحيدة الممكنة تقاسم التشخيص الصحيح وتخيل حلول مدمجة والتحلي بالشجاعة لتطبيقها لكن لا يبدو أن أياً من هذه الشروط سيتوفّر على المدى القصير.

المشاركة في هذا المقال