Print this page

بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية لـ2019: هل استقرت الحياة السياسية في تونس ؟

تمر التجارب الديمقراطية في كل بلدان العالم بمراحل متفاوتة الطول من الاستقرار والتحول، وقد ظن بعضهم أن الديمقراطيات العريقة

والثرية لم تعد تعرف سوى حالة الاستقرار بعد كل التقلبات التي مرت بها منذ نشأتها إلى سبعينات القرن الماضي وأن الحياة السياسية فيها قد تمحورت حول قطبين أساسيين : اليمين واليسار أو الليبيراليون (بالمعنى الفلسفي للكلمة) والمحافظون وأن الخلافات بين هذين القطبين لا تمس بالمقومات الأساسية لهذه الدول بل فقط بتلوينات اجتماعية واقتصادية فقط بل وأسلوبية في الأغلب الأعم.

ماهو وضعنا اليوم في بلادنا ؟ هل أدخلتنا الانتخابات العامة في خريف 2019 في مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي أم هي استمرار للتحول في المشهد السياسي وأن التوازنات التي جاءت بها لن تصمد أمام انتخابات عامة قادمة ؟

تصعب كثيرا الإجابة القطعية عن هذا السؤال ولكن يمكن أن نقول بأن عناصر اللااستقرار تبدو طاغية على المشهد، لا فقط بحكم طبيعة القوى السياسية التي أفرزتها الانتخابات بل حول قدرتها الفعلية لبداية إنقاذ فعلي وجلي للاقتصاد الوطني ومن ثمة تحسين شروط عيش التونسيين بالاعتماد على حلول تتأسس على الجدوى الاقتصادية لا ضدها ..

ولكن اللااستقرار لا يفسر فقط بالفشل - النسبي في كل الأحوال – لأغلبية حكم ما، بل خاصة بعدم استفادة المعارضة الأساسية لهذه الأغلبية في الانتخابات القادمة وبتحول جذري في أطراف المعادلة في كل مرة ..

منذ انتخابات 2011 أثبت حزب واحد نوعا من الديمومة والقدرة على المقاومة ونقصد به حركة النهضة، ولكن حركة النهضة - رغم تقدمها النسبي في تشريعية 2019 – في تراجع مستمر من مليون ونصف مليون صوت في 2011 إلى حوالي خمسمائة وستين ألف صوت في 2019 اي أن الحركة الإسلامية قد خسرت قرابة ثلثي قاعدتها الانتخابية في ثماني سنوات.

أما حزب نداء تونس الذي تمكن من هزم حركة النهضة في 2014 فقد اندثر تماما بعد خمس سنوات وحتى لو جمعنا النسب التي حصلت عليها كل شقوقه فلا تصل الى %10 من الأصوات بما يدل ان وهم القطبين المحددين للساحة السياسية قد تبخر بانهيار النداء وبتراجع النهضة ..

ثم لو نظرنا الى الأحزاب الثلاثة الأخرى التي تمكنت من تشكيل كتل نيابية في 2014 وهي الجبهة الشعبية والاتحاد الوطني الحر وآفاق فهي بدورها قد غابت او كادت تماما من المشهد السياسي اليوم.

والسؤال هنا هل ان القوى والشخصيات السياسية التي برزت في 2019 قادرة على ان تستمر وستقتر ؟ ام انها كسابقاتها لا تساوي سرعة بروزها سوى سرعة أفولها ؟

الأكيد أن الشخصيات والأحزاب التي برزت بمناسبة هذه الانتخابات جلها ينتمي إلى ما يمكن تسميته بمعاداة المنظومة (anti-système) وان كانت المنطلقات مختلفة وأحيانا متناقضة بين هذه المكونات الجديدة / القديمة، وحتى حركة النهضة،العنصر الثابت في المنظومة منذ 2011، قدمت نفسها في 2019 باعتبارها الممثل الأبرز للخط الثوري وأنها هي أيضا معادية للمنظومة ولكن لم تكن موازين القوى لفائدتها فقط لا غير ..

ولكن اليوم جل هذه القوى في السلطة أو هي اقتربت منها كثيرا بدءا برئيس الجمهورية الجديد وصولا إلى ما يسمى بأحزاب الخط الثوري أي النهضة وائتلاف الكرامة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب مع بعض الحلفاء الآخرين .. أي أن جل هذه القوى ستشكل ،شاءت أم أبت ، منظومة الحكم لهذه الخماسية أي أنها هي «المنظومة» الآن وستكون مطالبة غدا بإثبات نجاحها وأنها قادرة لا فقط على التسيير المختلف للدولة بل تحقيق نتائج أفضل بكثير ولقد رأينا بان إستراتيجية التعلل بثقل التركة لا يمكنها أن تنطلي على الناخبين والنقطة المحورية التي ستكون غدا في محصلة الجميع – ايجابا او سلبا – هي في قدرة هذه القوى على تغيير «المنظومة» اي تغيير حوكمة البلاد بسياسات عمومية بديلة وذات فاعلية أم أن «المنظومة» كانت اقوى. من كل هؤلاء فغيرتهم هم بعد أن فشلوا في تغييرها ..

في المحصلة لا يمكن تصور حد أدنى من الاستقرار في المنظومة السياسية والحزبية ما لم تقلع البلاد فعلا اقتصاديا واجتماعيا، ويخطئ من يعتقد أننا قد استنفدنا كل المتاح الحزبي والإيديولوجي فأبواب الممكن مازالت مفتوحة على مصراعيها ولنعد فقط سنين إلى الوراء لنرى هل كان متابع واحد للشأن الوطني يتصور هذا المشهد الذي انبثق عن انتخابات 2019 ؟ ونفس الامر يمكن أن يقال عن مشهد 2024، أو حتى قبله لو اضطرت البلاد إلى إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها ..

الثابت الوحيد اليوم هو غياب الثوابت في المشهد السياسي بما يعتبر كثيرا من مقروئيته ويجعل كل الفاعلين السياسيين يتهيّبون مزالقه وفخاخه.

لقد اندثرت أحزاب كثيرة من الثورة الى اليوم فالثورة لا تأكل أبناءها فقط كما يقال بل تآكل أحزابها أيضا بل وتسمح لبعضهم بالحلم بموت كل الأحزاب وميلاد أشكال اخرى من التنظيم السياسي..

الأكيد على كل حال أننا لم نخرج من مرحلة الانتقال الديمقراطي بل لقد ولجنا في مرحلة ثانية فيه، تحدياتها اكبر وآمالها أضخم وقدرة اقتصادها على التحمل اضعف ومخاطر الانفلاتات الشعبوية فيها أعظم..

خماسية كل التحديات ..

المشاركة في هذا المقال