Print this page

على خلفية مرض رئيس الجمهورية: في الانقلابات المزعومة والبطولات الوهمية

يعلم الجميع أن عقلية المؤامرة قائمة في كل بلاد وشعب وأن هنالك دوما نزرا قليلا من «النخب» من يروج لها

أو يتأثر بها ولكننا نظل دوما أمام ظواهر مرضية معزولة يتندر بها في المجالس أما أن تصبح شكلا من أشكال «التفكير» المهيمن فذلك مؤشر على اضطراب نفسي وذهني مهدد للأمن العقلي للبلاد..
وفي تونس - كما في العالم – هنالك أصناف مختلفة من نظريات المؤامرة وأساسا المؤامرة الكلية والمؤامرة «لايت» ..

في المؤامرة الكلية يتم ربط كل الأحداث مهما كان تباعدها في المنطق بنسق يدعي تفسيرية تغيب عن «السذج» بناء على أن لا شيء يحصل صدفة وأن كل تزامن إنما يخضع لربط ولو خفي على الأذهان ..

بمناسبة مرض رئيس الدولة اشتغلت آلية المؤامرة الكلية وربطت بين هذا المرض ومرض رئيس مجلس النواب والعمليتين الإرهابيتين والطريقة التي تم بها إعلان المرض مع ما تيسر من التدخلات الأجنبية العربية منها والغربية لتقدم لنا القصة التالية : هنالك تخطيط شيطاني خبيث بموجبه أرادت حركة النهضة وحلفاؤها في الداخل (يوسف الشاهد وتحيا تونس ) وفي الخارج (تركيا وقطر) الاستيلاء على السلطة والمنطلق ليس هو مرض رئيس الدولة بل رئيس مجلس نواب الشعب وكيف يمكن تعويضه بنائبه الأول ،عبد الفتاح مورو ، القيادي النهضوي كخطوة أولى في طريقه إلى قصر قرطاج ،ولكن هذا يفترض وجود حالة من الشغور في منصب رئاسة الدولة وهنا تأتي قصة تعرض الباجي قائد السبسي للتسمم، ولا تهم هنا الإمكانية العملية بل الغائية المنشودة فقط لا غير ، ولكن هذا كله قد لا يكفي لذا تم «تنظيم» عمليتين إرهابيتين بالعاصمة حتى تسود الفوضى ويتم تنصيب مورو في السويعات القليلة التي تلي حالة الشغور النهائي لمنصب رئيس الدولة .

لا يهم في نظرية المؤامرة الكلية صحة كل حدث على حدة كنظرية تسميم رئيس الدولة بل هذا الربط السحري بين كل الأحداث بدرجة ينبهر بها المتلقي وتلعب على أوتار دماغه الزاحفي (le cerveau reptilien) فيقع التصديق نظرا لكوننا أمام «نظرية» تفسر كل الأحداث و«تكشف» كل الخطط الجهنمية المتخفية..

والغريب أن هذه النظرية الغرائبية والعجائبية والتي لا تصمد أمام فحص لكل مكوناتها تجد العديد من العقول التي تصورناها راجحة تؤمن بها وتساهم في ترويجها. هذه هي نظرية المؤامرة الكلية وفيها أحداث أخرى تضاف إليها عناصر داخلية وخارجية أخرى لتحسين الإخراج ولفرض الصدقية على الأذهان . ولكن النظرية التي راجت كثيرا في نهاية الأسبوع الماضي هي نظرية المؤامرة المخففة أو «اللايت» والتي لا تقول بتسميم رئيس الدولة – أي محاولة قتله في النهاية – بل بسعي بعضهم للاستفادة من التوعك الصحي الحاد الذي الم به متزامنا مع عمليتين إرهابيتين والفكرة هي هي محاولة النهضة وحلفائها الاستفادة من كل هذا للوصول إلى قصر قرطاج عبر تولي عبد الفتاح مورو رئاسة مجلس النواب بالنيابة ، وهنا يتدخل بعض الأبطال «الأسطوريين» أبطال طواحين الهواء الدونكيشوتيون لإفشال المؤمرات والمخططات ولإرجاع الأمور إلى نصابها .. أشخاص لو لا حكمتهم الفارقة لسقطنا في مخطط شيطاني رهيب .!!!
لابد ان نعترف بان لنظرية المؤامرة الكلية أو المخففة جاذبية لا تضاهى ..فهي تفسر كل شيء وتعطي معنى لأحداث متناثرة وهذا يطمئن النفوس الضعيفة التي لا تقوى على العيش في عالم اللاتحدد .

في عالمنا اليوم التفسيرات العقلانية لا تقنع الجمهور بل حتى بعض النخب ، وأحيانا ما يُتهم أصحابها بالسذاجة وبعدم قدرتهم على اختراق مخططات المطابخ المظلمة.
ثم إن المتهم الأساسي في كل هذه الروايات هي حركة النهضة وكما يقول المثل الشعبي « اللي تحبو سقطلو واللي تكرهو لقطلو» وما دامت النهضة مكروهة من أوساط عديدة في المجتمع فكل اتهام لها يجد أذانا صاغية مهما كان مجانبا للصواب او لتسلسل الأحداث ..

ما حصل يوم الخميس الفارط هو ارتباك عام وجماعي داخل القيادات السياسية لجل أحزاب البلاد ولنوابهم بالتبعية اثر أخبار تسرب بعضها من مصادر مقربة جدا من رئيس الدولة وجاء البيان الأول للرئاسة ليؤكدها من حيث نزع الى المصارحة ونسبة مرتفعة من الشفافية عندما ذكر «وعكة صحية حادة» فطرح أمر الشغور الوقتي او النهائي بصفة حتمية..

وقد يكون بعضهم خلال فترة الارتباك الأولى قد عبر عن رأي أو اقتراح فيه غرابة او حتى تسرع في استباق الأحداث أو أن هذا قد أسال لعاب بعضهم ولكن كل الشهادات من أطراف يستحيل اجماعها على «مؤامرة» واحدة تؤكد غياب خطة الاستيلاء ، حتى على رئاسة المجلس بدليل أن نوابا من النهضة ومن الائتلاف الوطني هم من بين الذين الحوا على السيد محمد الناصر الذي كان في إجازة مرضية على ضرورة الحضور الى البرلمان والى عقد مكتب للمجلس بمعية رؤساء الكتل .

لاشك أن هذه الرواية ستبدو «سطحية» وبسيطة للمولعين بالعجائبي والغرائبي وأن هنالك من له مصلحة واضحة في الترويج لبطولات دونكيشوتية فنحن على مشارف انتخابات وقد يكون لهذه الروايات دور في اضافة نقاط أو حذفها لهذا الطرف أو ذاك .
كل ما نتمناه – مرة أخرى – هو أن يتعافى رئيس الدولة وأن يكون قادرا على العودة إلى سالف نشاطه وأن يقوم بالأعباء الدستورية لوظيفته ..

التصريحات الرسمية تبعث على التفاؤل ولكن لا وجود إلى حد الآن لبيان طبي يعطي صورة واضحة عن الوضع الصحي لرئيس الجمهورية..

ولكن الأيام القادمة ستكون حاسمة ولاشك ونحن على ثقة بأن الباجي قائد السبسي سيتخذ في الإبان القرار الملائم لمصلحة البلاد فإما مواصلة المشوار إن هو تأكد من قدرته على ذلك ، وهو ما نأمله ونرجوه ، أو تسليم الأمانة بالطريقة التي يقدر أن فيها مصلحة البلاد..
أيام حاسمة تنتظر البلاد وما على الجميع إلا التعامل العقلاني والوطني مع كل قرار يصدره رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيا من شعبه..

المشاركة في هذا المقال