Print this page

وانطلق الموسم الانتخابي: هل يتطابق العرض السياسي مع واقع تونس اليوم ؟

مع اقتراب المواعيد الانتخابية الوطنية بدأنا نلحظ حركية ونشاطا لدى الأحزاب والائتلافات والمستقلين

من أجل الاستعداد ليوم الامتحان... والمعطيات الأولية تفيد بأن العرض السياسي الانتخابي اليوم سيكون أوسع عرض يطرح على التونسيين منذ سنة 2011 وأننا قد نتجاوز، ومن بعيد، كل الأرقام القياسية خاصة في ما يتعلق بالأحزاب والائتلافات القادرة على التقدم في كل الدوائر الثلاثة والثلاثين، فهذا العدد كان يٌعد بالأحاد في 2011 و 2014 ونراهن أنه سيتجاوز العشرة هذه المرة بالاضافة الى مئات القائمات الحزبية والائتلافية والمستقلة والتي ستكتفي بالترشح في بعض الدوائر كما هو الحال في كل انتخاباتنا ما بعد الثورة...

ولكن السؤال الذي لم يطرح بعد بالصفة الكافية هو في مدى تطابق هذا العرض الضخم والمتنوع مع الطلب الذي يعبر عنه مجتمعنا في تعدده؟

والسؤال الثاني والأهم في نظرنا هو هل نحن أمام عرض يفوق الطلب بما يفسر نتائج الرابحين والخاسرين أم أننا أمام عرض فيه المنظم وفيه الفوضوي ولكنه وان استجاب لأصناف معينة من الطلب بوفرة زائدة عن اللزوم فانه لا يلبي، الى حدّ الآن، حاجيات أخرى في الطلب للمجتمع التونسي؟

في كل تعريفات العلوم السياسية يمثل الحزب السياسي حوصلة مصالح فئة أو فئات معينة بصفة مباشرة إلى حدّ ما وهذا ما يعطينا ما يسمى بالأحزاب البراغماتية أو أن الحزب السياسي هو تصور فكري لما يجب أن يكون عليه المجتمع ولكن حتى في هذه الحالة لا ينقطع الحزب عن الدفاع عمّا يتصور أن الفئات الاجتماعية التي يدّعي تبني قضاياها ومصالحها..
ولكل حزب، بهذه الصفة، مجال انتخابي يتسع أو يضيق وقد يحصل أن يتنافس أكثر من حزب على نفس المجال الانتخابي وهنا تكون الكلمة الفيصل للناخبين الذين يحددون لوحدهم موازين القوي الآنية في كل مجال مخصوص...

والحزب السياسي كائن حي محكوم بقانون الحياة السرمدي الذي أبدعه اليونان: عالم الكون والفساد، أي أن كل ظاهرة حية بالمعنى الحقيقي أو المجازي تولد (الكون) وتنمو وتندثر (الفساد) ونموها يكون دوما مطابقا لقدرتها على التوسع في مجالها الحيوي، أما لو انحسرت بصفة هيكلية ودائمة فسيكون مآلها حتما الفساد أي الاندثار...

وهنا نعود الى سؤالنا الأول من زاوية أخرى: هل أن أحزابنا السياسية كائنات حية مدركة لقوانين حياتها الخاصة أم أن بعضها كائنات لا تعترف أصلا بقوانين الحياة!

لدينا اليوم 216 حزبا قانونيا ويمكننا أن نجزم دون كبير مجازفة أن ثلثهم أو أكثر لن يتقدم بأية قائمة في الانتخابات التشريعية القادمة وأن الثلث الآخر سوف يتقدم في أقل من خمس دوائر وأن عدد الأحزاب التي ستتقدم في أكثر من نصف الدوائر لن يتجاوز العشرات القليلة.. وهذا يعني أن حوالي 70 ٪ من أحزابنا القانونية لا تصح عليها تسمية حزب وأنها كائنات لا تكترث مطلقا بقوانين الحياة لأنها ولدت ميتة فهي اليوم مجرّد عناوين بلا أي مضمون بشري أو فكري..

لنأخذ مثالا من الضفة المقابلة: هنالك في بلادنا جزء من المواطنين يعتبرون أنفسهم قريبين جدّا من أطروحات الاسلام السياسي الرئيسية وقوامها ذلك الشعار الذي يرفعه الاخوان المسلمون في مصر وغيرها: «الاسلام هو الحلّ».. هذا الطلب الاجتماعي الخاص يتطابق كلية مع عرض سياسي واحد في تونس اليوم وهو حركة النهضة.. ولكن رغم أن حركة النهضة لا تجد منافسا لها في مجالها الانتخابي الا أنها بصدد محاولة توسيعه في هذه السنين الأخيرة لكي لا تكون فقط حزب «الاسلام السياسي» بل وكذلك حزب المحافظين دينيا واجتماعيا وهذا مجال أوسع بكثير من الأول والنهضة لم تتمكن بعد من الانفراد فيه بصفة هامة ولكنها تعمل على أن تبدو لعموم التونسيين بأنها هي الحزب الوحيد للمحافظين دينيا واجتماعيا وتعتبر أن هذا المجال الجديد بالنسبة لها ما بعد الثورة قد تم افتكاكه جزئيا من قبل حركة نداء تونس أو من أنصار الرئيس السابق المنصف المرزوقي في 2014 وبعده التيار الديمقراطي اليوم وهي تسعى للتمدد فيه باعتباره الضامن لها اليوم وغدا لفوز عريض وهي تريد أن تتموقع فيه لوحدها وقد أقدمت الحركة الاسلامية على جملة من التعديلات في خطابها السياسي أو في اختيار مرشحيها (وقد ظهر هذا بصفة جلية في الانتخابات البلدية) من أجل تحقيق هذا الهدف.

وهذا التطابق النسبي بين العرض والطلب هو الذي يفسر صمود حركة النهضة وعدم تأثرها الكبير بحصيلة حكمها زمن الترويكا أو مشاركتها في الحكم بعده..

مقابل هذا الطلب الهام هنالك طلب آخر هام اليوم ولعله الأكثر أهمية من ناحية امتداده السوسيولوجي وهو جملة المواطنات والمواطنين الذين لا يريدون أن تتغير طبيعة الحياة في تونس التي أخذت معالمها الأساسية مع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.. وهؤلاء ليسوا بالضرورة بورقيبيين أو دستوريين بل هم أناس يعرّفون أنفسهم بأنهم تونسيون أساسا وأن انتماءهم لهذا الوطن المخصوص هو انتماء لقيم قوامها المفهوم الواسع والغامض في آن الذي أطلقه الراحل محمد المزالي تحت شعار «الأصالة والتفتح» والذي يمثل اليوم حوالي نصف التونسيين.. مفهوم واسع وغامض لأنه يضم داخله المتشبثين بالبورقيبية كفلسفة حياة مع حنين متفاوت لمرحلة ما قبل الثورة بالاضافة لفئات واسعة من النخب والطبقات الوسطى المؤمنة بحداثة تميّز (وأحيانا تفصل) بين المجالين الديني والسياسي بمفهومه العام...

في 2014 تمكن نداء الباجي قائد السبسي من الهيمنة الكبيرة على هذا المجال ولكن اليوم نجد تنافسا في العرض بين فرقاء عدة لا يملك أحدهم - الى حدّ الآن - عناصر الهيمنة الثقافية ليكون هو الممثل الأساسي لهذا المجال الواسع..

وتبقى في تونس معضلة ما يسمى بالعائلة الديمقراطية الاجتماعية التي تتقاطع جزئيا مع المخزون الكبير لما نسميه اصطلاحا بالعائلة الوسطية التونسية وتمتد هذه العائلة الى بعض مكونات الجبهة الشعبية التي تمارس الديمقراطية الاجتماعية على استحياء ولكن المفارقة التونسية تكمن في أن هذه العائلة على اتساعها المجالي نسبيا تبقى ضعيفة التمثيلية سياسيا والسبب الرئيسي وراء ذلك هو الهيمنة الفكرية والتنظيمية لاتحاد الشغل على هذا المجال، هيمنة لم تسمح الى الآن ببروز عرض سياسي مغر علاوة على التشتت وصراع الزعامات وضعف آليات الخطاب والاستقطاب الذي ميّز كل مكونات هذه العائلة منذ الثورة بما يجعل منها رافدا ضئيلا على المستوى السياسي، رافد غير قادر على الاستقلال الذاتي وعلى البروز كعرض سياسي قادر على فرض التداول.. والحلم الدفين لبعض مكونات هذه العائلة هو ايجاد نوع من الجبهة السياسية الانتخابية مع اتحاد الشغل حتى يتطابق العرض السياسي الجديد مع حقيقة هذا الطلب الاجتماعي القوي...

وهذا الحلم ليس بجديد بل فكرت فيه قيادات نقابية كبيرة ومؤثرة حتى قبل الاستقلال ولكن كل محاولات تحويل القوة الاجتماعية الضاربة للمركزية النقابية الى حزب سياسي عمالي جماهيري قد باءت الى حدّ الآن بالفشل.

على يسار هذه العائلة نجد اليسار الراديكالي الذي تمكن لأول مرة في تاريخه من توحيد أهم روافده من التيارات العروبية الى سليلي الحركات الماركسية اللينينية بتنوعاتها المختلفة في صلب الجبهة الشعبية ولكن مشكلة الجبهة أنها لم تتمكن بعد حوالي 7 سنين من نشأتها من تجميع كل الرافضين للخيارات الليبيرالية وللنمو على الطريقة الرأسمالية...

خطاب الجبهة الشعبية يدافع عن الفقراء والمحرومين والمهمشين والعمال بالفكر والساعد ولكن غالبية أنصارها هم من الطبقات الوسطى العليا ومن الشباب والموظفين بما خلق حالة غير عادية في انفصام الخطاب عن واقعه الطبقي الفعلي الحقيقي.. كما أن الجبهة لم تتمكن من الهيمنة الفكرية والسياسية على جلّ الساخطين على المنظومة الحالية فالتصويت المعادي للمنظومة (Le vote anti système) لا يذهب جلّه للجبهة الشعبية بل لتيارات أخرى أبرزها أنصار المرزوقي في 2014 واليوم تتنافس عليها أحزاب عدة أهمها التيار الديمقراطي وحراك تونس الارادة وكذلك تيار المحبة والحزب الدستوري الحر وان كنا هنا أمام ظواهر سياسية لا يجمع بينها رابط فكري وسياسي ولكنها تتنافس جميعها على هذا النوع من التصويت الرافض لكل مخرجات منظومة ما بعد 2011 اما لأنها خانت الثورة وأهدافها (التيار والحراك أساسا) أو لأنها تعتبر أن الثورة كلها خور وخراب ( الحزب الدستوري الحرّ)...

واللافت للنظر هنا هو أننا كنا نلاحظ طلبا اجتماعيا متصاعدا دون أن توجد تعبيرة سياسية له وهو المطالبة بعودة النظام بمعناه العام (l'ordre) وبالرجل القادر على فرضه.. الآن هذا الطلب قد وجد عرضا يناسبه وهو ما تمثله عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحرّ.

أمام هذا الوضع العام للطلب الاجتماعي وللعروض السياسية لاتباعه نرى، مبادرات واجتهادات وأحزابا تشتغل وفق ديناميكية غريبة الى حدّ ما لأنها لا تطرح مطلقا على نفسها وبصفة جدية: ما هو الطلب الاجتماعي الذي أريد الاستجابة له أولا وهل أن الخطاب والأفكار والأشخاص التي أقدمها للناخبين غدا قادرة أم لا على تلبية جيدة لهذا العرض ثانيا.؟
تكوين حزب سياسي أو الاقدام على مبادرة سياسية لكي تعرض على المواطنين ولكي تكون بديل حكم ممكنا مسألة جدية للغاية وهي لا تأتي فقط لتلبية نرجسية زيد أو عمر أو للمشاركة من أجل المشاركة أو لمزيد تفتيت عرض في مجال معيّن بدعوى التجميع...

السياسة لن تجد نبلها في بلادنا مادام جزء هام من الفاعلين فيها تحركهم مطامح أو أضغان أو أحلام شخصية بغض النظر عمّا يعتمل في سطح المجتمع وفي عمقه ولن يكون النقاش السياسي في بلادنا جديا وقادرا على تغيير خطوط التماس ومن ثمة واقع الناس مادام العرض السياسي لا يتناسب في جوهره مع المطلب المجتمعي ومادام صراع الأخوة الأعداء في جل المجالات يطغى على وضوح البرامج ووضع الطموحات الشخصية - وهي مشروعة - في خدمة مشروع موحد لكل مجال على حدة.

المشاركة في هذا المقال