Print this page

صندوق النقد الدولي.. الاتحاد الأوروبي .. مجموعة العمل المالي.. المنظمة العالمية للتجارة .. تونس ومعارك السيادة الوهمية !

«السيادة قبل الزيادة» شعار جميل رفعه النقابيون في الأسابيع الفارطة عندما احتد الصراع

بين الحكومة والمنظمة الشغيلة حول الزيادة في الأجور في الوظيفة العمومية .. فعلا «السيادة قبل الزيادة» هو التوجه الصحيح ولكن من مفارقات تونس اليوم جاءت الزيادة وجاء معها أيضا وفي نفس الوقت وضرورة شيء من النقصان في السيادة ، مادامت الزيادة تعني آليا مزيدا من الاقتراض الخارجي..

وفي الحقيقة السيادة والعولمة نقاش لا يهم تونس فقط ولا ما كان يسمى بدول العالم الثالث كذلك بل كل الدول معنية به بما في ذلك أقواها اقتصاديا وعسكريا وماليا اليوم الولايات المتحدة الأمريكية ، ويمكن أن نقول أن انتخاب دونالد ترامب كان تحت شعار « السيادة لتحقيق الزيادة».

صحيح أن النقاش لم يعد ساخنا كثيرا في العالم حول العولمة كما كان ذلك منذ عقدين من الزمن واثر انهيار المعسكر الشرقي ، ولكن لا يعود هذا إلى ضعف العولمة أو تراجعها بل لأنها أصبحت القاعدة الأساسية في تعامل الدول والشعوب وأصبح الفكاك منها طوبا لبعض الحالمين فقط لا غير ..

إذا ما قصدنا بالعولمة التداخل الاقتصادي والثقافي والسياسي ما بين الدول فالعولمة قديمة قدم الحضارة الإنسانية وقد تجلت في تلك الإمبراطوريات المتعاقبة التي حكمت أجزاء من العالم ، ولكن العولمة الحديثة أبعد وأشمل وأعمق من هذا التداخل بكثير ..

تعني العولمة الحديثة بداية هيمنة نظام اقتصادي وحيد على الغالبية الساحقة لدول العالم وهو النظام الرأسمالي وما يستتبعه حتما من تبادل البضائع والخدمات والأموال والبشر، وهذه العولمة ليست متروكة للاختيار الحر بل لها آليات تحكمها ، آليات وضعتها الكتل والدول القوية ولاشك ولكنها تحكم اليوم الغالبية الساحقة من المبادلات الاقتصادية بين الدول بدءا بمنظمة التجارة الدولية وصولا إلى كل الهيئات الاقتصادية أو السياسية أو القانونية التي تضبط العلاقات المتعددة في الكرة الأرضية..

وعلى عكس ما يعتقده البعض – وخاصة في أوساط اليسار التونسي – فالدول الكبرى لم تكن هي المستفيد الأبرز من هيمنة هذه المنظومات العابرة للحدود فلقد فازت بقصب السباق كل الدول التي انخرطت وبقوة ومنذ البداية في هذه العولمة الزاحفة كالصين والهند وكوريا وسنغفورة ودول أسيوية كثيرة وبدرجات أقل البرازيل وروسيا وتركيا وجنوب إفريقيا .. ولقد تمكنت هذه القوى الصاعدة من تغيير المعادلة الدولية ومن فرض بعض شروطها على دول كانت تفوقها اقتصاديا وعلميا وماليا..

ولقد قننت العولمة بمختلف هياكلها ومؤسساتها كل مجالات التبادل من الأطر القانونية إلى شروط العمل وطرق الحوكمة ومواصفات البضائع والخدمات ..

والعولمة عولمات ، عولمة كلية ، كمنظمة التجارة العالمية ، وعولمات جزئية ، كالاتحاد الأوروبي أو الفضاء الأورو المتوسطي.. وتونس قد انخرطت في مختلف اطر العولمة واستفادت من بعضها كما حصل ذلك عند إمضائنا لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 1995 بما سمح لنا بتأهيل جزء من مؤسساتنا الصناعية خاصة وضاعف من تصديرنا وجعلنا نقارب نسبة %80 في تغطية صادراتنا بوارداتنا في سنوات الألفين ، وها نحن نقاضي المغرب الأقصى بأحكامها عند منظمة التجارة العالمية نتيجة فرض المملكة رسوما مجحفة على كراسنا المدرسي مثلا..

ولكن لم تتمكن بلادنا من القيام بالإصلاحات الضرورية منذ ربع قرن تقريبا فلم نصلح منظومتنا التربوية والتكوينية وجعلنا جزءا هاما من اقتصادنا تحكمه قوانين ريعية قبل الثورة وبعدها فتراجعنا في سلم القيم وتراجعت إنتاجيتنا فلجأنا إلى الجوانب السلبية في العولمة : الاقتراض ومزيدا من الاقتراض فالاستيراد واستعضنا عن الإنتاج بالتجارة وفتحنا حدودنا لا للعلم والتكنولوجيا والاستثمار بل لجماعات الإرهاب والجريمة المنظمة والتهريب فلجأنا إلى المنظمات الدولية للاقتراض وكانت الحلقة المفرغة التي نحن فيها منذ بداية الثورة ..

والمفارقة التونسية انه كلما غرقنا في هذه الدائرة المفرغة تعالت اصوات ، صادقة ولاشك تندد بالعولمة أو بالأحرى بالهيئات التي تمثلها وتدعو للخروج من سطوتها ، ولكن دون ان نفكر في سؤال بديهي : أين المهرب من العولمة؟ في الانكماش على الذات ؟ في عولمة بديلة ؟ ولكن مع من وبأية مقاييس ؟

المعادلة سهلة للغاية : المحافظة على استقلالية القرار الوطني، وهذا هو جوهر السيادة، يقتضي الخروج من الحلقة المفرغة القائمة: تفاقم إنفاق عمومي وتداين خارجي وتراجع الإنتاجية .. فالمحافظة على استقلالية القرار الوطني – والاستقلالية دوما نسبية – تعني بوضوح الانخراط الايجابي في العولمة والاستفادة من الفرص التي توفرها والقدرة بالتالي على حسن التفاوض مع مختلف الشركاء .. فاقتصاد ضعيف لا قدرة له مطلقا على التفاوض ، هو فقط يقتات ، لحين ، من «كرم» بعض المانحين..

نذكر جيدا كيف قامت الدنيا ولم تقعد عندما تم إدراج بلادنا في القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي تبعا لتقرير من مجموعة العمل المالي (GAFI) في ما يتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ولكن عندما استوجب الأمر الإقدام على جملة من الإصلاحات بما فيها مسائل تتعلق بتنظيم بعض المهن الحرة كالمحامين وعدول الإشهاد والخبراء المحاسبين ..هنا ارتفعت أصوات محترمة تندد بالخضوع للدوائر الأجنبية !! ما العمل ؟ البقاء في القائمة السوداء ؟ اي حرمان البلاد وبنوكها وهذه المهن وكل الفاعلين الاقتصاديين من كل فرصة للتعامل مع الخارج؟!!

البيان الأخير لمجموعة العمل المالي يطالب السلط التونسية باستكمال جملة من الإصلاحات المتفق حولها وتقديم تقرير مفصل في الغرض في افريل القادم والإجابة على 4 أسئلة رئيسية أولها «استكمال تطبيق كل من المحامين وعدول الإشهاد والخبراء المحاسبين الالتزامات المحمولة عليهم في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب» فهل سنستجيب أم سنتمسك بسيادة وهمية تجعلنا في خانة الدول المتعاونة مع غسل الأموال وتمويل الإرهاب !!

غريب هو أمر البلاد حيث تصب جل دعاوى «السيادة» في خانة مزيد من ارتهان قرارنا الاقتصادي بحكم ضعف اقتصادنا وغياب قدرتنا التفاوضية ..

نحن كذلك التلميذ الذي يحتج على طريقة إسداء الأعداد واحتساب المعدلات فعوض أن يبذل قصارى الجهد للتفوق يقاطع الدراسة والامتحانات والمدرسة كذلك ..

وحدها الدول التي تعمل وتجتهد وتتنافس بشراسة قادرة على الاستفادة من فرص العولمة والتوقي من شرورها .. أما الدول التي لا تعرف إلا الاحتجاج و«ركركة» الشاي والتواكل على دولة راعية وحاضنة ومغذية فمآلها التهميش فالاندثار ..

المشاركة في هذا المقال