Print this page

نرى البعرة ولا نريد أن نرى البعير: تونس وغلبة الفكر الأسطوري

يقسم عدد من الفلاسفة الفكر البشري إلى عدد من المراحل المتتالية والمتداخلة في آن : الفكر الأسطوري والفكر الديني والفكر العلمي .

وما يهمنا هنا هو جانب أساسي في الفكر الأسطوري القائم على الملاحم الإلهية والبشرية الخارقة فالممكن والمستحيل فيه لا يعودان إلى نظام سببي قابل للفهم والتفهم بل إلى جملة من الخوارق أو اللعنات فقط لا غير ..
والفكر السائد في تونس في ما يتعلق بجوهر عيشنا المشترك هو فكر أسطوري سحري يرى البعرة ولا يريد أن يرى البعير ، يقطع نظام الأسباب ويلعن النتائج دون أن يتوقف على أسبابها المباشرة أو العميقة ..

وجمّاع العقل السحري عندنا هو اعتقادنا بأن ما يقوم به مختلف الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين مهما كان حجمهم إنما لا تأثير له على المحصلة العامة وعلى النتائج الإجمالية لأعمالنا ، وأن الدولة قادرة على كل الخوارق والمنح وأنها عندما لا تعطي فذلك لأنها لا تريد وعليه ينبغي مقاومتها بأبطال أسطوريين من الحاضر قصد إرغامها على الاذعان وعلى الإنفاق من بعض ما تخفيه من أسرار كنوزها الخيالية ..

قامت تونس كلها ولم تقعد واستشاطت غضبا على البنك المركزي ومحافظه لأنه رفع بمائة نقطة في نسبة الفائدة المديرية : الكل غضبان بل هناك من يرى في البنك المركزي قوة شبه شيطانية هدفها سرقة أموال التونسيين وتحطيم قدرتهم الشرائية أو التنافسية ..
«الجريمة» إذن هي في الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية ولكن يرفض الجميع الوقوف عند كل حلقات الأسباب التي دفعت إلى اتخاذ هذا القرار ..

نرفض أن نرى في تعطيل الحوض المنجمي واستكشاف المحروقات جزءا من المشكلة ونرفض أن نتوقف عند تراجع الإنتاجية وأثرها البالغ في ضعف تنافسية بضاعتنا وترفض منظمة الأعراف الاعتراف بقلة إقدام رجال الأعمال على الاستثمار داخل مناطق التمييز الايجابي والتحول المتزايد لجزء من صناعيينا إلى تجار بما حولنا إلى قاعة بيع للمنتوجات التركية والصينية ونرفض أيضا أن نرى أننا كمواطنين لا نستهلك المنتوجات الوطنية ونفضل عليها المنتوجات المستوردة حتى عندما تكون رديئة ..

نرفض أن نرى كل هذا ثم ننتفض ضد قرار البنك المركزي !! نرفض أن نرى العجز التجاري الخيالي لسنة 2017 بـ15.6 مليار دينار و 19 مليار دينار في 2018 وبداية سيئة في 2019 بما نتج عنه عجز برقمين لميزان الدفوعات الخارجية .. نرفض أن نرى التراجع المستمر لعملتنا الوطنية منذ افريل 2017 وما نتج عنه من مضاربات على العملة وعلى المواد الأولية وارتفاع التضخم بنقطتين في سنة واحدة من %5.3 في 2017 إلى %7.3 في 2018 ونقف فقط عند القرار الأخير وكأنه قضاء سحري من قوى أسطورية لا علاقة له بكل ما سبق..

نعلم جميعا أن وضعية اقتصادنا صعبة للغاية وأن عناصر التعافي النسبية مازالت هشة للغاية ، إذن لم الدهشة والاستنكار ؟ ! لم نلوم البنك المركزي على ترفيعه في نسبة الفائدة الرئيسية ؟ فهل لديه وسيلة أخرى للحد من التضخم ؟

يكفي أن نقوم ببحث بسيط على الانترنت لكي ندرك انه كلما ارتفع التضخم في بلد ما عمد البنك المركزي لذلك البلد للترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية والغاية واضحة وهي الضغط على نسق الاستهلاك ولكن ارتفاع نسبة الفائدة يعسّر ولاشك من شروط تمويل الاقتصاد مما يستوجب حلولا مبتكرة حتى لا تتضرر المؤسسات الاقتصادية وخاصة الصغرى والمتوسطة منها بهذا الإجراء والحل واضح وهو تنفيل نسبة الفائدة بواسطة صندوق خاص..

ولكن مقاومة العناصر الفعلية للتضخم لا تتم فقط بالترفيع في نسبة الفائدة بل لابد من العمل بالأساس على عجز الميزان التجاري وعلى تراجع الإنتاجية ورجوع استغلال مواردنا الطبيعية المحدودة إلى أقصى قدر ممكن والقيام بسياسات نشيطة قد تشجع الاستهلاك المحلي وإنقاذ كل منظوماتنا الإنتاجية وخاصة الفلاحية (اللحوم الحمراء – اللحوم البيضاء – الألبان – البيض ..) هذا هو العاجل الذي ينبغي ان يعمل عليه الجميع وان تقدم فيه الحكومة تصورا واضحا قصد نقاشه وإثرائه..

نحن لسنا اليوم إزاء حلول جوهرية وجذرية بل حلول إنقاذية تمنع وقوع الكارثة ثم ننصرف بصفة جدية للإصلاحات العميقة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية قصد الرفع من مكانتنا في سلم القيم على مستوى دولي ..
ان المقاربة العقلانية تقتضي الاستثمار الأقصى لكل مواردنا وطاقاتنا وإمكانياتنا لا أن نهدر نصفها ثم نتباكى على نتائجها الكارثية ..

مشكلة تونس هي في هيمنة هذه الرؤية الأسطورية على السياسة والاقتصاد .. فلو دخلنا كلنا طريق العقلانية سوف نجد كل الحلول ولكن ليكن واضحا لدى الجميع : لا حل دون عمل وعمل وعمل .. ولا خلق للثروة دون زيادة الإنتاج وتحسين الإنتاجية .. أما محاولة اقتسام ثروة لم نخلقها بعد فذلك هو عين الفكر السحري ، وما دمنا هكذا فسنكون وسنظل على هامش كل شيء .

المشاركة في هذا المقال