Print this page

بين مهادن أو معاد لها: هل يمكن الحكم دون حركة النهضة ؟

سؤال يتداوله كل السياسيين اليوم وخاصة من يتصور أن لديه حظوظا لحكم البلاد غدا: هل يمكن أن تتشكل

أغلبية برلمانية دون حركة النهضة ؟ وبالطبع لا أحد يفصح بوضوح عن رأيه أو حتى تحليله للعموم خوفا من السقوط في تناقض مدو تماما كما حصل منذ سنة 2011 لكل الأحزاب التي ادعت أنها لا ولن تتحالف مع النهضة ثم وجدناها في حالة «شراكة» أو «وفاق» أو «تحالف» وكل هذه الأحزاب قد تعللت بضرورة احترام نتائج الصندوق وبأن الحكم دون النهضة مسألة مستحيلة حسابيا ومكلفة سياسيا ..

في الحقيقة في 2011 الموضوع لم يكن مطروحا بمثل هذه الطريقة لأن النهضة هي التي انتصرت في الانتخابات وهي التي حددت قواعد اللعبة وانقسمت الأحزاب المتحصلة آنذاك على كتل برلمانية بين شقين : أحزاب اختارت التحالف مع النهضة من موقع التبعية وأخرى تموقعت منذ البداية في المعارضة لها ..
في نهاية 2014 الوضع كان مختلفا فالنهضة هي التي خسرت الانتخابات والنداء هو الذي لجأ إليها بتقدير آنذاك من مؤسسه رئيس الجمهورية بأن حكومة لا تدعمها حركة النهضة لا حظوظ لها في البقاء ..

واليوم يعود هذا السؤال من جديد والكل يستعد لمواعيد انتخابية كل المؤشرات تؤكد أنها ستكون صعبة على الجميع وخاصة على أصدقاء وأعداء النهضة على حد سواء ..

يخفي هذا السؤال مسألة إستراتيجية حول طبيعة التحالفات الممكنة في تونس اليوم بين ما يسمى بالعائلة الوسطية بكل فروعها والقوى التي توجد على يسارها وأهمها الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي وبقية مكونات المشهد اليساري والعروبي ثم حركة النهضة من جهة أخرى.
ما هي تحالفات الحكم الطبيعية ؟ هل يمكن لما يسمى بالعائلة الوسطية أن تحكم مع الأحزاب اليسارية؟ وإن كان ذلك كذلك فحول اي برنامج اقتصادي واجتماعي ؟

لاشك بأن العائلة الوسطية قريبة جدا من ناحية التصور المجتمعي من تشكيلات اليسار خاصة عندما تحتد العلاقة مع الإسلام السياسي وهذا ما فسر في سنة 2013 تشكيل جبهة الإنقاذ ولكن هل يمكن تحويل التوافق المجتمعي الواضح إلى تقارب في التصورات الاقتصادية والاجتماعية بما قد يشكل برنامج عمل حكومي ؟
يبدو أن التموقعات الحالية لأحزاب الوسط ولأحزاب اليسار لا تسمح بتقارب من هذا الصنف ..

وعلى عكس هذه الوضعية نجد أن هنالك تباعدا هاما في الاختيارات المجتمعية بين أحزاب الوسط والإسلاميين مقابل نوع من التقارب في التصورات الاقتصادية .أما ما بين النهضة واليسار فالتباعد مزدوج مجتمعيا واجتماعيا واقتصاديا ..

وينبغي أن نضيف إلى هذا التوصيف العام شبه استحالة حصول أي حركة منفردة على الأغلبية النيابية لوحدها وذلك نظرا لقانون انتخابي سخي جدا مع الأحزاب والقائمات ضعيفة التمثيلية وفق منظومة «اكبر البقايا» .

فلكي يحكم حزب لوحده لابد أن يحصل على حوالي نصف أصوات الناخبين وهذا اليوم أمر مستبعد للغاية ..

إذن للحكم تحتاج البلاد إلى تحالفات وهي لن تكون إلا من صنفين أساسيين : إما تحالف الوسط مع اليسار أو تحالف الوسط مع الإسلاميين لان التحالف بين اليسار والإسلاميين شبه مستحيل بالمعطيات الحالية ..

ما يمكننا قوله هنا هو أن التوازنات السياسية الحالية ما لم يطرأ عليها تحول جذري أي حركة إسلامية دون %20 أو حركة أو تحالف وسطي يتجاوز %45 أو تشكيلات يسارية تشكل مع بعضها حوالي %40 من الأصوات، أي دون تحول جذري في موازين القوى السياسية ودون تحوير جذري للقانون الانتخابي فإنها التحالف مع حركة النهضة يبدو وكأنه قدر محتوم على كل تشكيلات الوسط المتنافسة حتى وإن أبدى بعضها مهادنة ظاهرة للحركة الإسلامية (كمشروع رئيس الحكومة اليوم ) أو عداء واضحا (كالقيادة الحالية للنداء الملتفة حول رئيس الجمهورية ) ونحن هنا على الأرجح أمام طريقتين مختلفتين تهدفان لغاية واحدة وهي تحسين شروط التفاوض مع الحركة الإسلامية فقط لا غير ..

يبقى انه بالإمكان الاستغناء عن هذه التحالفات التي تبدو في جوانب كثيرة منها غير طبيعية ولكن ذلك يفترض تغييرا هاما في نظام الاقتراع يعطي للحزب أو للتحالف الحزبي الفائز بالمرتبة الأولى وان لم يحصل على نصف الأصوات إمكانية تشكيل أغلبية نيابية بفضل تنفيل ما للأول على حساب بقية الأحزاب كالاعتماد على عتبة مرتفعة نسبيا (%5 او خاصة %10) أو نظام اقتراع اغلبي او نسبي يعطي أفضلية واضحة للقائمة الأولى ..

لو اعتمدنا على نظام اقتراع كهذا سوف نسمح لهذه العائلات الثلاث الكبرى بإمكانية الحكم لوحدها شريطة أن تكون هي الفائزة في الانتخابات التشريعية الواضح أننا نستطيع هنا تصور أغلبية مطلقة للأحزاب الوسطية أو اليسارية ولكن كذلك إمكانية أن تحكم الحركة الإسلامية لوحدها وأن تستغني عن كل تحالف سياسي ..
والإشكال التونسي هنا هو أن كل الأحزاب التي تريد أن تقصي حركة النهضة من دائرة الحكم ترفض كذلك أي تنقيح للقانون الانتخابي ..

أي أننا نريد الشيء ونقيضه في نفس الوقت ..
يبدو أننا سنتجه إلى المحافظة على نفس نظام الاقتراع وحتى لو أدخلنا فكرة العتبة فستكون على الأرجح في حدود %3 لا %5 كما جاء في المشروع الحكومي وهنا ستكون لنا فسيفساء سياسية في الانتخابات القادمة .. فسيفساء قد تدفع بمن يهادن أو يعادي حركة النهضة إلى السعي إلى تشكيل ائتلاف حاكم معها وإن كان ذلك بعناوين مختلفة ..

وبالطبع لو فازت الحركة الإسلامية في خريف 2019 ، وكان فوزها هاما ، وهذا أمر ليس مستحيلا، فستكون هي التي تحدد قواعد اللعبة للعهدة الانتخابية القادمة ..

المشاركة في هذا المقال