Print this page

الحوار بلا راعي و دون ضوابط...

انفلتت البوصلة من أيدي جميع الفاعلين في الشأن السياسي في تونس، وغمس كل من هب و دبّ يده في طبق ما يزال على النار ، وكانت

مواقف بعض ممن كنّا نصنفهم ضمن فئة العقلاء ، مخيّبة للظن ،و ساد الاعتقاد لدى الملاحظين وجانبا من الرأي العام، أن بعض التدخلات الرشيقة والحكيمة لبعض الناشطين في المجال السياسي والبرلماني ،كانت موجّهة للإستهلاك الشعبي ولتلميع الصورة وادخار رصيدها للاستحقاقات الانتخابية أو طمعا في حيازة مركز في السلطة.

لقد كان الأمل قائما قبل يوم الاضراب العام في الوظيفة العمومية في 22 نوفمبر الماضي في التوصل إلى حل بين الحكومة والمركزية النقابية لذلك قلنا في افتتاحية 18 نوفمبر 2018 تحت عنوان «التفاوض بين التصعيد والتصادم» أن المواطنين تعوّدوا على احتدام لهجة الحوار والتفاوض بين الإتحاد و الحكومة و أحيانا مع أحد أعضائها، ولكن يقع تغليب صوت العقل كما يقال، و تهدأ الاجواء المشحونة ، في انتظار غيرها . واعتبرنا أن هذه العادة السيّئة تدفع إلى التساؤل، عن أسباب تكّرر «أزمات التفاوض» وإبقاء الحبل على الغارب في إدارة الأزمات ، رغم أن تونس نالت جائزة نوبل للحوار الّذي اضطلع به «الرباعي الراعي للحوار» الّذي كان الاتحاد العام التونسي للشغل من رواده.

لكن كان الرد على خلاف المنتظر ، بدخول تونس في دوامة ضاعت فيها سبل الحوار ، إذ تمّ تنفيذ الاضراب و تعطّلت لغة الحوار ، بل تمّ الإعلان عن برمجة اضراب عام آخر يشمل كل أعوان الوظيفة العمومية والقطاع العام يوم 17 جانفي القادم ،و انضاف إلى ذلك تعطل لغة الحوار بين وزير التربية والجامعة العامة لنقابة أساتذة التعليم الثانوي باتخاذ هذه الأخيرة لقرار عدم اجراء الامتحانات ،و الدخول في تحركات احتجاجية ، و تكثف التصريحات المتوتّرة للمؤيدين و الرافضين لهذا التمشي.

و رغم اعلان السيد نورالدّين الطبوبي أمس عن موعد جلسة ستنعقد غدا الإثنين 10 ديسمبر الجاري بين الأطراف المعنية بملفي الوظيفة العمومية والتعليم و وزارة المالية ، فإن ذلك لم يمنع من بقاء أجواء التوتر مخيمة على المناخ العام ، خاصةّ و أن مساعي تطويق أزمة التواصل لم تفض إلى تقريب وجهات النظر عند تدخل السيد محمّد الناصر.

إن الدور التوافقي لرئيس مجلس نواب الشعب كان ممكنا نظرا لما تمنحه صفته لهامش من الحياد و السلطة المعنوية لمباشرة مساعي رعاية الحوار بعد حصول الانفصال الناعم لرئيس الحكومة عن رئيس الجمهورية و دخوله في «تحالف» مع حزب النهضة و مع ائتلاف جديد متكون من أغلبية من منتمين لحزب نداء تونس . ولقد أساء الشاهد تقدير دور مؤسّسة رئاسة الجمهورية في معالجة الأوضاع الحالية و في مجابهة الحالات الطارئة والأزمات الّتي قد تجدها حكومته في ما تبقى من مرحلة حكمها ، و بخصوص مستلزمات خلق التوازن والتعديل ، مكتفيا بالبحث في النطاق الّذي يضمنه له الدستور (نظريا) ، والآليات البرلمانية الّتي توفّرت له .

لذلك أمام غياب أو تغييب مؤسّسة رئاسة الجمهورية وانحسار دور منظمة الأعراف وصعوبة تموْقعها في الخلاف الدائر بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، وغياب الهيئة الوطنية للمحامين و الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ، للعب أي دور وساطة لتقريب وجهات النظر ،و أمام غياب أي إطار آخر يمكن أن يستوعب التفاوض، أصبح «الاختلاف الثنائي» في قالب مواجهة مفتوحة غير محمودة العواقب، تُدار على الملأ و بألسن منفلتة ودون ضوابط ، وفي منازلة لا يقدّر أي طرف مخرجاتها و ما قد ينجر عنها من مخاطر على السلم الاجتماعية .

لذلك أصبحت البلاد على شفا أزمة مفتوحة على كل الاحتمالات لا أحد يعرف عواقبها ، خاصّة وأن المتهافتين على لعب دور في المستقبل تعوزهم التجربة السياسية و القدرة على قراءة تبعات المواقف المتصلّبة ، بما فيهم رئيس الحكومة ذاته والمقربون منه .

فالتشاور والحوار حول أمهات المشاكل التي تعرقل مسيرة الدولة و النظر في الحلول الكفيلة بتجاوز كل الإشكاليات المطروحة ليست مسائل ظرفية ، و لا تترك للمجهول ، بل يجب أن تُدار بكل مسؤولية في الأطر الشرعية و المؤسساتية ذات الصلاحيات المركزية .

لقد فوت الماسكون بالسلطة أكثر من مناسبة لإعادة النظر في مسألة التوظيف والتأجير ، كما غضت النظر عن معالجة مسألة الانتدابات وتبعات البطالة المقنّعة و مراجعة التعيينات الّتي تمّت في غفلة ،أو ضمن تدبير محكوم بالضغوطات أو الترضيات . و قد تضمنت خارطة الطريق الّتي تم الاتفاق عليها قبل انتخابات أكتوبر 2014 ،العديد من النقاط المطلوب مراجعتها ولكن بقيت في جانب كبير منها حبرا على ورق و لم يقع تفعيلها، بحكم «التوافق» المغشوش ، الّذي أجّل الكثير من الخلافات.

لا مناص إذن من مراجعة المسار ،و التحسّب من تبعات الافراط في شد الحبال و جذبها ، و تجنب المأزق الّذي دخلت فيه البلاد ، بسبب التعنّت وتجاهل المصلحة العليا للوطن الّذي يتغنّى كل طرف بوضعه نصب عينيه ، و يبقى التفاؤل قائما للتجاوز، لأن ما حصل إلى حد الآن، كشف ضيق الأفق و مخاطر الدخول في ظلمة النفق.

المشاركة في هذا المقال