Print this page

الحقيقة و الوهم في متغيرات المشهد السياسي

مخطئ من يعتقد أن حسم المعركة البرلمانية بخصوص ابقاء الشاهد على رأس الحكومة

في ما أسميناه بالتحول الناعم على رأس السلطة التنفيذية ، تعكس مجريات استحقاقات 2019 ،و أن تشكيل كائن حزبي جديد، سوف يقلب موازين القوى رأسا على عقب.
و واهم من صورت له الخيلاء برفع راية النصر، و يخطو خطوة هروب إلى الأمام ،استنادا لما يتراءى له من تفاعلات على الساحة السياسية و من تغيرات فوقية في توجهات الأطراف السياسية الغير مستقرة.

هذا الجزم يجد بعض مبرراته في نتائج الإنتخابات البلدية الأخيرة ،و في سبر ردود الفعل المنتظرة من الفئات الواسعة المتضررة من الأزمات المتعاقبة الّتي يعيشها المجتمع على خلفية توجهات سياسية خاطئة وصراعات سياسية لا تعنيه.

فإعادة التشكل في الكتل البرلمانية ، يبقى في النهاية إدارة وقتية لقوانين اللّعب بأوراق التصويت التي سجلت إلى حد الآن «مكاسب» جزئية للإتلاف البرلماني الجديد بقيادة النهضة و الشاهد.و لكن تبقى هذه «المكاسب» مهدّدة بالنسف في أي وقت بسبب ما سيعرض من مشاريع و ما سيطرأ من متغيرات على خلفية ما سمي بـ«التنظيم السري لحزب النهضة» وعلى خلفية الشكاية الّتي تقدّم بها سليم الرياحي الشخصية المثيرة للجدل منذ ظهورها في المشهد التونسي بعد جانفي 2011 في انتظار الكلمة الفصل الّتي ستصدر عن القضاء . دون أن ننسى تبعات ما قد يطرأ في المناخ الاجتماعي و السياسي بسبب آفاق الحوار بين المركزية النقابية ، والمعركة الّتي أصبحت مفتوحة بين حزبي حركتي نداء تونس والنهضة.

فوضعية الشاهد و الحزام الّذي التف حوله يبقى هشا و قابلا للتحلّل بسبب إنتقال نفس أسباب الانقسامات الأولى الّتي عرفها نداء تونس، إلى «الإئتلاف» الجديد ،مع فارق التغيير في الماسك بالمقود من قائد السبسي إلى الغنوشي، و لكن في وضع عام أكثر تأزما في مناخ أكثر توتّرا. و تتمحور هذه الأسباب في عدم الإنسجام بخصوص رؤية المشروع المجتمعي وفي «داء» معارك الزعامة و حرب المواقع و توزيع النفوذ .

من هنا يمكن أن نستقرئ حظوظ نجاح أو إخفاق كائن حزبي جديد في خارطة حزبية تتكون من حوالي 213 حزبا ، أغلبها بقيت مجرّد إشهارات مبوبّة بالرائد الرسمي منفلتة عن التراتيب والقوانين الّتي تنظمها.

لقد سبق أن أكدنا في مثل هذا الحيّز بمناسبة الإعلان عن تشكل أحزاب سابقة ، أن الخارطة التونسية غير قادرة على استيعاب هذا الكم الهائل من الأحزاب ،بل أن الفكر السياسي لا يمكن أن يفرز كمّا مماثلا من المشاريع السياسية في تونس .كما كان من المتوقع أن يجد يوسف الشاهد نفسه في ركن غير مريح تصعب فيه المناورة و هو في مركزه الحالي ، و تضيق فيه المخارج لأنه رهن مستقبله في مجلس النواب وبأغلبية لا يمتلك مفاتيحها و ضمن توافق شكلي غير مريح.

ومن غير المتوقع أن تستوعب جبة «الشيخ» الغنوشي خيوط الحزام الّذي تشكل حول الشاهد بصفة دائمة، كما أنه من غير المتوقع أن يتوصّل أي تشكل جديد بالملامح المتحدّث عنها ،خارج نطاق حزبي نداء تونس والنهضة ،إلى النفاذ إلى القاعدة الشعبية الواسعة لسبب مفصلي ، يتمثل في أن أغلب الوجوه «القيادية» أستُهلكت وغير قادرة على التحكم في وجهة القواعد الّتي سبق أن اختارت مواقعها ، أو إقناع الأغلبية الصامتة من الانضمام إليها ،لوقوفها على فشل هذا وذاك، وخذلانها في هذه المحطة أو تلك.

ولكن من الممكن تعديل الإستقطاب الثنائي الّذي خيّم على الوضع السياسي في تونس بتغيير ملامحه بفرز واضح للمشاريع السياسية الّتي يراد تكريسها و للمنهج التنموي والاقتصادي الذي يرونه ملائما ،و ذلك عبر برامج واضحة قابلة للتطبيق
والخشية أن تزداد رقعة العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية العامّة اتساعا عند حلول استحقاقات 2019، نظرا إلى أن الإنتخابات البلدية الأخيرة الّتي شهدت تشكل قاعدة هامة من المستقلين حماسا لدى المواطنين ،لم تتوصّل هي الأخرى إلى تحقيق المنتظر منها لتحسين الشؤون البلدية و الجهوية.

زد على ذلك، فإن ما يحصل في هذه الفترة الفاصلة ، لا يشجع على الالتزام المنظم المهيكل، ولا يغري لترك موقع المتفرج ، بسبب توسع فقدان الثقة في جانب هام من النخبة السياسية، وفي عدد كبير من الماسكين بدواليب السلطة و اتساع «لعنة» آثار اغتيال الزعيمين بلعيد والبراهمي وعدد لا يستهان به من الأمنيين والعسكريين في مجتمع جُبل على الوسطية والمسالمة .

والحديث عن التنظيم السري أو عن خيوط مؤامرة ما ، سرَى أثرها في مختلف الأوساط إلى درجة أن عبارة الانقلاب لم تعد مزعجة أو مثيرة للفزع لكثرة تداولها و سهولة إستعمالها واطلاقها بمجّرد حصول «تقلّب». وأصبح المتابعون لشؤون السياسة يتفنّنون في توصيف هذا «الإتقلاب» بوصفه بـ«الناعم» و«الهادئ» و«السياسي» و«الدستوري» ...إلخ، لينخرط الجميع في مبارزات تصرف الناس عن العمل والتفكير الجاد في السبل الّتي تُخرج البلاد من أزمتها و في الاستعداد للمصاعب المنتظرة إذا لم تتوصل الدولة إلى السبيل الكفيل بوقف التردّي .

كما أن مواضيع الانقلابات و قضايا التآمر على أمن الدولة و طمس الحقائق وتزويرها ، وشراء الذمم والرشوة والفساد ، أصبحت تُطرحُ على الملإ وعلى المنابر ،بدون أي ضابط، ثمّ يقع الخوض في تفاصيل الإتهامات،ثم القول بأن الأمر تعهّد به القضاء ، الّذي أصبح بعضه في وضع لا يحسد عليه ، و بعضه الآخر يجاري الأوضاع كما اتفق وحسب الأهواء والميولات.

هذه الأوضاع لا تريح الرأي العام ، و تتلاقف المنابر الإعلامية في الخارج مجرياتها، ويستغل البعض ما يحصل لصب الزيت على النار فيتحدثون عن إحتمال التصادم .
لذلك على الأطراف السياسية أن تتجنب التصعيد في لهجة التخاطب، وأن تنصرف إلى ممارسة نشاطها السياسي و الدعائي في كنف القانون ، خاصّة أنه لا أحد منها يملك المفتاح السحري لحل الأزمة ،و لكن على الغيور على مصلحة الوطن أن يبرهن على كيفية فرض إحترام هياكل الدولة المدنية و استعادة هيبة مختلف مؤسساتها و الحفاظ على القيم الجمهورية وترك المسائل المتعلّقة بمخالفة القوانين للسلطة القضائية الّتي عليها أن تأخذ بزمام الأمور وتتحمّل عبء حسن القضاء و كشف الحقيقة وإعلاء كلمة القانون و قيم العدالة.

المشاركة في هذا المقال