Print this page

قبل سنة من الانتخابات: القضاء في الدوامة !

فــي الديمقراطيــة العصرية يعسر كثيرا الفصل بين مستويات شتى وخاصة بين

الأحزاب والإعلام والرأي العام ..
لا نعتقد البتة أن الإعلام قادر على خلق رأي عام من عدم أو ترجيح كفة حزب على حساب آخر ولكن المشهد العام متداخل إذ لم يعد بإمكان حزب أن يعيش خارج الإعلام وليس بإمكان جل المواطنين أن يقرروا اختياراتهم يوم التصويت دون أن يكونوا مطلعين عبر مختلف وسائط الإعلام على الأحزاب والشخصيات السياسية وماتقترحه للبلاد والعباد..
فالصورة اليوم هي في مركز كل شيء ، وهي التي تكثف الزمن الوطني والإقليمي والدولي وتجعل مما يحصل على بعد آلاف الكيلومترات محورا لسجال وطني ساخن ..
ولكن تكثيف الصورة للمشهد السياسي في عمومه كثف كذلك كل الأبعاد واختلطت فيها الصور المحمولة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وجعلت منها عنصرا أساسيا في تحديد وجهة الناخب وتعديل مواقع ومواقف السياسيين ..
وكلما كنا تحت وطأة الصورة تدخلت أبعاد كنا نخالها خارج دائرة الضوء السياسي ونقصد بها القضاء وكل ما يحف به ..
اليوم يجد القضاء نفسه في جل الدول الديمقراطية ، ورغم انفه، أحد العناصر المحددة للعبة السياسية، ففي فرنسا منذ سنة ونصف خسر المرشح الأبرز الانتخابات الرئاسية بحكم كشف إعلامي لتجاوزات اقترفها وتعهد بها القضاء بسرعة وفقد بها فرنسوا فيون نقاطا ثمينة أبعدته منذ الدور الأول بعدما كان قبل أسابيع فقط الفائز دون منازع بالانتخابات .. ونظير ما حصل في فرنسا يوجد في بلدان ديمقراطية عدة ..

في تونس ، بلد الانتقال الديمقراطي ، نحن بصدد عيش تجربة لا ندري هل ستكون مماثلة أم لا ولكن الواضح أن الزمن القضائي ، بمعناه العام ، سيتدخل كثيرا في هذه السنة الانتخابية الحاسمة ..
الحزب الأول الفعلي في تونس والفائز في الانتخابات البلدية في هذه السنة بالذات متهم اليوم من قبل هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي بتشكيله – أو إعادة تشكيله- لتنظيم خاص متورط في أعمال جوسسة وعنف وله علاقة ما باغتيال الشهيدين ..
كان ذلك لأول مرة في الندوة الصحفية لهيئة الدفاع يوم 2 أكتوبر 2018، وما نلاحظه أن القضاء لم يتلقف إلى حد هذا الوقت هذه المسالة ولم يتعهد بها بصفة جدية وحتى ما قام به قاضي التحقيق عدد 12 من حجز ما في «الغرفة السوداء» إنما كان في إطار تحقيقه في ملف جريمة اغتيال الشهيد محمد البراهمي وهو لا يبحث ، ولا يمكن له أن يبحث ، في مسألة وجود التنظيم السري من عدمه.. ثم ونحن مازلنا في شهر نوفمبر 2018 تنفجر قضية اخرى وهي الدعوى التي تقدم بها سليم الرياحي لدى القضاء العسكري متهما فيها رئيس الحكومة يوسف الشاهد والمدير العام للأمن الرئاسي الحالي ومدير الديوان الرئاسي المستقيل سليم العزابي بتهمة تدبير انقلاب.. نعم فقط لا غير !!

ثم يصدر «الديوان السياسي» لنداء تونس بيانا يتبنى فيه الدعوى التي تقدم بها أمينه العام سليم الرياحي ويركز في النقطة الثانية من بيانه على ضرورة كشف الحقيقة في مسألة التنظيم السري لحركة النهضة ..
يوم أول أمس يستقبل رئيس الجمهورية وفدا من هيئة الدفاع عن الشهيدين وينقل موقع الرئاسة الرسمي جزءا من هذه التهم المتعلقة «بالجهاز السري لتنظيم سري».
ويوم أمس استقبل رئيس الدولة مبروك كرشيد الوزير السابق لتكليفه – حسب بعض التسريبات - بمتابعة قضية «الانقلاب» من موقع «محايد» أي من موقع لا يستبعد بالمرة إمكان وقوع هذه الجريمة ..
يعني وبغض النظر عن الغايات والأهداف السياسية الظاهرة أو الخفية هنالك رغبة من أطراف معينة في تحويل جزء من الخلافات السياسية إلى الساحة القضائية وذلك بغض النظر عن جدية الملفات المقدمة ..

الواضح أن إستراتيجية القيادة الحالية لنداء تونس بإلهام (؟) من رئاسة الجمهورية تسعى لاستعمال الملفات القضائية لتحويلها إلى ملفات سياسية الغاية منها إبراز النداء كحاجز أخير أمام الانتصار المحتمل لحركة النهضة وأن الصف الديمقراطي المعادي للنهضة لا خيمة له اليوم سوى خيمة رئاسة الجمهورية ، كما أن غاية النداء هي كذلك إثبات أن الحليف الجديد للنهضة أي يوسف الشاهد وجماعته إنما ينهل من نفس المعين : الانقلابات والعنف والمعاداة للديمقراطية .
لاشك لدينا بأن هنالك فرقا جوهريا – إلى حد الآن – بين قضية التنظيم السري لحركة النهضة وخاصة محاولة إحيائه بعد الثورة ودوره في مختلف أحداث العنف والاغتيالات التي حصلت في البلاد وبين دعوى الانقلاب. ففي القضية الأولى نحن إزاء كم هائل من المعطيات والوثائق والشبهات القوية التي تجعلنا أمام قضية جدية للغاية أما مسألة «الانقلاب» والتي قرر القضاء العسكري عبر وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بتونس فتح بحث مؤقت للتثبت من جدية الاتهام من عدمه لم ترق بعد للجدية المطلوبة ونحن ننتظر قرار القضاء العسكري للحكم على جديتها من عدمها..
ونعتقد أن القضاء العسكري قد تصرف بالحكمة المطلوبة اذ سارع بفتح بحث مؤقت حتى يقرر الحسم في جدية الملف باعتبار أن الشكاية « لم تبلغ حد الكفاية من التعليل او التبرير» وما نرجوه ان يحسم «هذا البحث المؤقت» في جدية القضية من عدمها فإما أن يبوء بها يوسف الشاهد ومن معه بجريمة الاعداد لانقلاب او سليم الرياحي ومن معه كذلك بجريمة الإيهام بمحاولة انقلابية.
الوضع مختلف في مسالة التنظيم السري لحركة النهضة وما ندهش له هو عدم تحرك جدي للقضاء المدني وقطب مكافحة الإرهاب للبحث أصلا وبكل الجدية الكافية في هذا الملف حتى نعلم أيضا وفي وقت معقول هل لحركة النهضة تنظيم سري بعد الثورة أم لا ؟ وأن كان الآمر كذلك فمن هم المتورطون فيه ؟
ان الفصل في هذه القضايا بالاستقلالية والنزاهة والسرعة المطلوبة ضروري حتى لا نفسد حياتنا الديمقراطية الناشئة.
من حق المواطن / الناخب ان يعلم هل يضع في الصندوق أسماء سياسيين نزهاء أم مورطين في جرائم مالية وسياسية ، بل من حق المجتمع أن يمنع كل المجرمين والمنحرفين من التقدم للنشاط السياسي وهذا يطرح تحديات جديدة على القضاء لأننا نراهن بأننا لسنا أمام آخر قضية لها تأثير سياسي واضح بل لعلنا أمام مسلسل نعلم أوله ولم تتضح بعد صورته النهائية ..
دور القضاء في الانتقال الديمقراطي لا يكمن فقط في ضمان شروط الاستقلالية والحياد بل وكذلك بأن يفصل بوضوح وبنزاهة وبالسرعة المطلوبة في كل القضايا التي يمكن ان تقسّم الرأي العام وان تؤثر بالتالي على الحياة السياسية وعلى صندوق الانتخاب.

المشاركة في هذا المقال