Print this page

ماذا بعد الإضراب العام ؟

حصل يوم أمس الإضراب العام في الوظيفة العمومية وقد كان ناجحا كما توقعنا وتجمهر النقابيون أمام مجلس نواب الشعب

ثم كانت جلسة للامين العام للمنظمة الشغيلة مع رئيس مجلس نواب الشعب ورؤساء الكتل ، ودعا الجميع إلى الجلوس الى مائدة التفاوض وإيجاد الحلول المرضية لأجراء الوظيفة العمومية والتي تتلاءم مع الأوضاع المالية الصعبة للبلاد..
حدث كل هذا دون أن يتم تهجم على المحتجين أو تعتيم إعلامي على تحركاتهم ومطالبهم وحتى وإن لم تجلس الحكومة للتفاوض الجدي بعد فباب الحوار لم يغلق والبلاد ليست بالمرة على فوهة بركان كما بشرنا بذلك بعضهم ..
وهذا الوضع الجديد تدين فيه تونس للثورة وللثورة وحدها وهو ليس منّة لا من هذه الحكومة ولا من سابقاتها أو لاحقاتها،فاليوم نتخاصم ونتصارع وأحيانا نتقاذف بأقذع النعوت ثم يعود كل واحد منا إلى بيته ثم نتفاوض ونتصارع غدا..
لا ينبغي مطلقا أن نتعامل مع المناخ الديمقراطي في بلادنا – رغم نواقصه الكثيرة – كما نتعامل ، دون وعي ، مع الشمس فنحن أمام مكسب جديد مازال هشا ومازال يستحق من الجميع بذل مزيد من الجهد لرعايته وصيانته من كل ردة ومن كل نقص أو انتقاص ..
الآن وقد حصل هذا الإضراب العام فهل ستذهب البلاد فعلا في موجات متفاقمة من التصعيد ؟
لا ينبغي التقليل من إمكانية حصول تصعيد متبادل ولكن الأرجح اليوم أننا لن نصل لهذا وذلك لسببين اثنين :
- أولا : التصعيد المتبادل لن يفيد لا الحكومة ولا اتحاد الشغل ولا البلاد
- ثانيا : استعداد الحكومة ، رغم كل شيء ، للدخول في مفاوضات حول الزيادة في الأجور ..
ما يبدو لنا غريبا بعض الشيء وعسيرا على الفهم هو لماذا لم تدخل الحكومة في تفاوض جدي مع اتحاد الشغل قبل الإضراب العام ؟ وهل كانت تريد أن يحصل الإضراب العام فعلا كما يعتقد ذلك البعض ؟
في الحقيقة لم نجد بعد من يفك لنا شفرة إستراتيجية حكومة الشاهد في هذا الملف ولا نرى كيف أن الإضراب العام سيكون عنصر تيسير للتفاوض إلا لو رمنا طرقا ملتوية للغاية من صنف حاجة الحكومة إلى احتجاج شعبي قوي ضد فكرة تجميد الأجور لتعتمد القصبة على ذلك لفرض نوع من المرونة على صندوق النقد الدولي في تطبيق إجراءات التحكم في كتلة الأجور ..
بماذا يطالب اتحاد الشغل ؟ بزيادات لا تقل عن حجم ما حصل بالنسبة للمنشآت العمومية أي بمعدل تقريبي بـ75 دينارا شهريا في الأجر الخام وهذا ما سيرفع في كتلة الأجور المقدرة بـ16.5 مليار دينار لسنة 2019 بحوالي 0.7 مليار دينار ، أي لو استجابت الحكومة لهذا الطلب بالكامل لكانت كتلة الأجور في سنة 2019 بـ17.2 مليار دينار ولمثلت %14.7 من الناتج الإجمالي المحلي في حين أن تجميد الأجور كان سيرجع نسبة الكتلة إلى %14.1 فقط مقابل %15.2 فعليا بالنسبة لسنة 2018..
والمهم هنا هو أن الزيادة التي يطالب بها الاتحاد لا ترفع من نسبة كتلة الأجور في الناتج بل تخفضها بـ%0.5 وهذه نقطة لابد من الوقوف عندها والبناء عليها ..
لقد التزمت حكومة الحبيب الصيد في ماي 2016 عندما أبرمت اتفاق القرض الممدد مع صندوق النقد بأن تكون كتلة الأجور في مستوى %12 سنة 2020 وعلى افتراض أن الحكومة تجمد الأجور في الوظيفة العمومية على امتداد السنتين القادمتين فلن تنزل كتلة الأجور إلا إلى %13 فقط بينما لو استجابت لمطلب الاتحاد ، وهو دون ما تم الاتفاق عليه في 2015 بكثير بمناسبة آخر مفاوضات اجتماعية ، لكانت كتلة الأجور في 2020 في حدود %14 ، أي حتى مع الزيادات فستأخذ نسبة كتلة الأجور منحى تنازليا ولكن ليس بالسرعة التي تعهدت بها البلاد وقد نصل إلى هذا الرقم السحري (%12) في أفق 2024 على الأرجح لا 2020.. ألا يمكن لنا، كحكومة وكبلاد وكدولة ، أن ندافع عن هذا المنحى التدرجي مع صندوق النقد الدولي ؟ وهل الحل الأمثل يكمن في تجميد الأجور مع أزمة اجتماعية خانقة قد تكلف البلاد خسائر طائلة أو في زيادات مدروسة تغطي جزءا من تدهور القدرة الشرائية وتخفّض تدريجيا من نسبة كتلة الأجور في الناتج مع ضمان سلم اجتماعية يمكن البناء عليها واستثمارها داخليا وخارجيا ؟
هنالك إذن منطقة رمادية وإمكانية لحلّ مرضي للطرفين ، حل يمكن الدفاع عنه وتوفير الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي يسمح ، نظريا ، بالتفرغ لتطوير الاقتصاد وتنميته ..
تونس بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد بين كل أطراف الإنتاج ولكن لا نعتقد أن الظرف السياسي الحالي مناسب لذلك فنحن في سنة انتخابية ستحتد فيها الصراعات والتنازعات ولكن يمكن أن نجعل من هذه السنة فرصة للحوار الجدي والمعمق حول أهداف وشروط هذا العقد الاجتماعي والاقتصادي الجديد، عقد يسمح للبلاد بانتخاب أغلبية أفكار لانجاز الإصلاحات الضرورية والتي ستمتد إلى عقد من الزمن على الأقل..
بإمكان تونس أن تصبح دولة مزدهرة نسبيا في المدى المتوسط ولكن هذا يستوجب ضرورة أن نكون متفقين على الأساسيات وأن يسير جلّ الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين في نفس الطريق دون أن يعني هذا شطب كل الفروقات والخلافات ..
وحدها الشعوب القوية قادرة على تحويل أزمات الطريق إلى فرص إضافية للنهوض ..

المشاركة في هذا المقال