Print this page

ماذا بعد «اختطاف» الفعل السياسي؟

يرتبط التدبير السياسي لدى كلّ من فصّلوا القول في هذا الحقل بتصوّرين: أوّلها يخصّ الفاعل السياسي. فحسب ابن رشد وغيره

من العلماء يعدّ من هو أكثر معرفة بسائر العلوم والفنون ومن هو أكثر قدرة على تدبير الجماعة الأولى بالترؤس ونيل السلطة. أمّا ثانيهما فهو تصوّر غائيّ للفعل السياسي. فالغاية(إقامة العدل، تحقيق مصالح الرعية...) هي التي تدفع إلى إنجاز الفعل. ويصرّ العلماء الذين أفاضوا في الحديث عن شروط التدبير السياسية وأسسه على أنّ السياسة ليست ممارسة متاحة للجميع بل هي علم ومعرفة يتداخل فيها الاجتماعي بالنفسي بالاقتصادي بالثقافي وتستند إلى مجموعة من القيم الأخلاقية وغيرها ومن ثمّة فإنّها حكر على فئة أثبتت معرفة متينة وكفاءة فكانت جديرة بخوض غمار التجربة السياسية.

وإذا سلّمنا بهذا التصوّر واقتنعنا بأنّ السياسة تقتضي تحصيل كفاءة معرفية ومهارات تواصلية وقدرة على فهم الواقع وتحليله واستنباط الحلول جاز لنا التساؤل عن تموقع أغلب السياسيين الذين برزوا خلال المسار الديمقراطي؟ فما هو الزاد المعرفي الذي حصّلوه حتى يقتحموا عالم السياسة؟ وهل طوّروا معارفهم وحيّنوها؟ وما هي المعاني التي أضفوها على الممارسة السياسية؟ وهل استطاعوا أن يتكيّفوا مع متطلبات السياق وأن يعقلنوا التجربة السياسية الجديدة لاسيما في المراحل المفصلية، ونعني بذلك عند حدوث الأزمات أو خوض الانتخابات؟ وهل كانت لديهم الحكمة والجرأة السياسية على الاعتراف بالتقصير وسوء التدبير ومن ثمّة القبول بالمحاسبة؟ ثمّ هل استطاعت النخب التي شاركت في مسار التحوّل أن تبني ما يمكن التأسيس عليه في التجارب القادمة؟

تجد هذه الأسئلة مشروعيتها في ما نمرّ به من أحداث ومواجهات تزداد وتيرتها حدّة مع كلّ أسبوع إن لم نقل مع كلّ يوم. فعندما تتعطّل ملكة العقل ويعجز السياسي عن صياغة التصورات وتحديد البرامج وتقديم المقترحات يغدو «إحداث الضجيج» و«إشعال المعارك» البديل الممكن والمتيسّر. ويتحوّل التدبير السياسي إلى تدرّب على فنّ الحرب.. يكفي أن نتابع التصريحات و«الحوارات» و«الاستعراض الخطابي» لندرك أنّ السياسة باتت تعرّف من خلال المعارك الرئيسية التي تخاض من أجل مصالح متعددة منها الشخصي والحزبي والأيديولوجي... ومنها المشروع وغير المشروع. أمّا الفعل السياسي فقد صار مقترنا في أذهان بعضهم بعدد الصولات والجولات والكرّ والفرّ والدسائس والمناورات والمؤامرات والانتصار والهزيمة.

ومادام أغلب الممارسين للفعل السياسي في قطيعة معرفيّة مع العلوم السياسية والثقافة السياسية ولا يقرّون بمحدودية ما حصّلوه من زاد، ويتمركزون على ذواتهم ولا يعتبرون أنّ من واجبهم سدّ الثغرات في تكوينهم وتهذيب سلوكهم وتطوير أدائهم والتفاعل مع الانتقادات التي تقدّم لهم فإنّ السياسة ستبقى مجالا للصراع من أجل القبيلة/الغنيمة وسيتحوّل الفعل السياسي إلى خطف ونهب واغتصاب ولجم وإذلال وقهر وتزييف للحقائق ومغالطات وابتزاز.. وبعد اختطاف الدين ها نحن إزاء اختطاف السياسة.

إنّ المشكلة ليست في تعنّت هذه الفئة من السياسيين ورفضهم تغيير فهمهم للسياسة وتطوير أدائهم فحسب بل إنّ الأخطر من كلّ ذلك هو الانعكاسات المترتبة عن تحريف المضامين السياسية وتشويه العمل السياسي وقد بدأت تظهر جليّة، نراها في ارتفاع عدد الباحثين عن فرص «الخلا» حتى وإن أدّى الأمر إلى «الحرقة»، ونلمسها في ارتفاع منسوب العنف، ونتبيّنها في إقبال الجماهير على متابعة «صراع الديكة» بعد أن تحوّلت «المنابر السياسية الإعلامية» إلى حلبات صراع وفيلم «Action» رخيص من حيث الإمكانيات ومتدنّي من حيث الجودة. ونرى تأثير «صانعي السياسة» في نفور الجموع من كلّ تحليل عميق وحوار رصين وهادئ واستدلال منطقي ومقتهم للمثقفين ولكلّ خطاب جديد ومختلف... فهل هو الانغماس في ثقافة استهلاك السلع الرخيصة والمهرّبة والوافدة والتطبيع مع المتداول والمألوف منذ سنوات؟ وهل نعيش عصر التدجين والقولبة والتنميط والخضوع لثقافة الهزيمة واليأس.

إنّ التدبير السياسي ينطلق من تدبير النفس وتهذيبها قبل تدبير شؤون الناس وتدبير المدينة، وهو مسار طويل يتطلّب الوعي بالواقع والشغف بالمعرفة والانفتاح على التجارب المغايرة والقدرة على الاستنباط والابتكار والبناء والتعديل.

المشاركة في هذا المقال