Print this page

على هامش الاقالات الأخيرة في قطاع الطاقة: في الدولة المنخرمة

أفاقت تونس صبيحة أمس على نبإ اقالات في قطاع الطاقة شملت بعض كبار المسؤولين وعلى رأسهم

وزير الطاقة والمناجم وبعد أقل من ساعتين جاءتنا التفاصيل مع الندوة الصحفية التي عقدها الوزير والناطق الرسمي باسم الحكومة إياد الدهماني.

يمكن أن نلخص هذه القضية كما يلي: لقد تم اسناد لزمة امتياز لاستكشاف الطاقة لأحد المستثمرين الأجانب سنة 1979، وكانت آنذاك مدة اللزمة 50 سنة أي أن نهاية فترة الامتياز تكون في سنة 2029. في الأثناء صدرت مجلة المحروقات في سنة 1999 والتي منحت امتيازات جديدة في مجال الاستكشاف ولكنها حددت فترة الامتياز بـ30 سنة فقط وخيّرت أصحاب العقود السابقة عند صدور المجلة بين الالتحاق بهذا النظام الجديد بكل ما فيه من تحفيزات ومن مدة استغلال كذلك أو البقاء في اطار الاتفاقيات السابقة عن هذه المجلة، وقد اختار المستثمر المعني بالأمر الانخراط في المجلة الجديدة وعليه تنتهي فترة الامتياز سنة 2009.

في سنة 2006 اقتنى مستثمر تونسي الشركة صاحبة الامتياز أي ثلاث سنوات فقط قبل نهاية الفترة..

جاءت سنة 2009 ولم تشعر السلط الادارية المؤسسة المعنية بنهاية الامتياز. ثم جاءت الثورة وسنة 2011 وهنا تقدم المستثمر التونسي الى الوزارة المعنية بالطاقة بخطة لتطوير الاستكشاف، ورغم أن الامتياز قد أضحى في حكم المعدوم إلا أن السلط الادارية تؤشر على هذا الطلب بما يعطي للشركة المستثمرة شرعية غير مباشرة للنشاط ثم تقدم المستثمر بمشروع استثماري سنة 2015 لاستغلال حقل «حلق المنزل» بسواحل المنستير ومرة أخرى تؤشر الادارة على هذه الخطة بالقبول وتواصل العمل هكذا إلى أن راسل المستثمر رئاسة الحكومة طالبا من صاحب القصبة التدشين الرسمي للحقل والذي كان سيدخل في طور الانتاج في هذه السنة بالذات، وعند التثبت من جدية هذه الدعوة وصلت معلومات لم يفصح أحد عن مصدرها تشير الى وجود مشكل ما في هذه اللزمة، وبعد التحقيق الاداري اتضح للجميع بأن امتياز الشركة المستثمرة قد انتهى منذ 9 سنوات علاوة على عدم انشاء مؤسسة جديدة بين هذه الشركة والشركة التونسية للأنشطة البترولية لبداية الاستغلال المشترك كما يشرط ذلك القانون التونسي بكل وضوح.

هذه هي القصة الكاملة كما قدمها يوم أمس الناطق الرسمي باسم الحكومة وما يهمنا هنا ليست هي قرارات الاقالة التي تم اتخاذها ولا معرفة هل كانت مبالغا فيها أم دون المطلوب ولا الحديث عن المسؤولية الجزائية لزيد أو عمر. فلنترك هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية وهيئة الرقابة العامة للمالية تقومان بالتحقيقات الادارية اللازمة ثم ليقل القضاء كلمته وليحدد طبيعة المسؤوليات وهل نحن أمام حالة فساد موصوفة أم تراخي مذهل لأجهزةالدولة أم للاثنين معا..

ما يهمنا هنا هو فهم حقيقة ما وقع وكيف يمكن أن يقع هذا في قطاع استراتيجي وفي استثمارات بمثل هذه الضخامة.

نحن أمام وضعية ليست فريدة في بلادنا ينتقل فيها ملف من مسؤول الى آخر وأحيانا من وزارة الى أخرى ولا يدقق الخلف في ما تركه السلف ودون وجود منظومات يقظة تفيد مباشرة بوجود مشكل ما فما بالك عندما يتعلق الأمر بقصة غريبة كهذه (إن ثبتت طبعا كل معطياتها الخبرية) وحتى عندما تنكشف بعض الاخلالات الجسيمة يكون للصدفة أو للتبليغ فيها الدور الرئيسي.

نحن لا نتحدث هنا عن الجوانب الادارية العادية للدولة بل عن اخلالات أو خروقات جسيمة تمتد فترة مسؤولياتها على سنوات طويلة.

لقد أثيرت شبهات عديدة حول قطاع الطاقة منذ سنة 2012 بعضها مبالغ فيه أو حتى ظالم ولاشك ولكن كيف لم تتمكن الحكومات والوزارات المتعاقبة منذ الثورة إلى اليوم من اكتشاف خلل جسيم بمثل هذه الفداحة؟ فربما لو لم يطلب المستثمر تدشينا رسميا من رئيس الحكومة لظل الوضع على ما هو عليه الآن.

وشبيه بهذا ما حصل في مسألة القائمات السوداء حيث نكتشف حجم الكارثة فقط زمن وقوعها دون أية قدرة على استباقها..

وسوف نرى في الساعات والأيام القادمة حملات وحملات مضادة تبتهج لهذه الاقالات أو تستنكرها لا بالنظر الى حقيقة الملف وما يستوجبه من معالجة ادارية وسياسية في البداية قبل المعالجة القضائية ولكن فقط باعتبار الاصطفاف مع الحكومة أو ضدها وباستباق الربح والخسارة السياسيتين من هذه الاقالات.

وهذا مرض قد استفحل في جل نخبنا ومواطنينا: الحكم على الأشياء وفق التوقعات الخاصة وحسابات الربح والخسارة الذاتيين لا باعتبار المصلحة العامة للبلاد.

لا ينبغي أن يكون ملف الحال -على ضخامته- الشجرة التي تخفي الغابة اذ الاشكال لا يكمن فقط في وجود شبهات قوية للفساد في هذا الملف وغيره بل وكذلك في «غفلة» أجهزة الدولة وضعف يقظتها وهما الحليف الأقوى لكل تسرب للفساد داخل الدولة.

المشاركة في هذا المقال