Print this page

في هيمنة «المسألة النسائية» من جديد ما بين بشرى وسعاد

سعى عدد من الفاعلين الحقوقيين والسياسيين والجمعاويين، منذ انطلاق مسار التحول الديمقراطي، إلى تجنّب خطاب التمركز حول جندر

محدّد واستبدال الحديث عن المرأة أو الرجل بالحديث عن المواطن/ة. وكانت الغاية من وراء ذلك توعية التونسيين بضرورة التفكير ضمن أفق ثقافة المواطنة وما تقوم عليه من مبادئ. ولكن كلّما تعقّد المسار السياسي الاجتماعي عاد النقاش حول «مسألة المرأة» واشتدّ الجدل حول تمثّل حقوق الإنسان للمرأة وأدوار النساء ومنازلهن، وغيرها من المواضيع. ولا يخفى أنّ ما نمّر به في تونس من أحداث ووقائع ذات صلة بتسييج «قضية المرأة» ليست استثناءا ذلك أنّ مسار بناء الأمة، الدولة ، القوميات قد ارتبط في تجارب عديدة(مصر،تركيا، إيران، ...) بتحديد أوضاع النساء. وفي حالات انعدام الاستقرار ، وهيمنة الشعور بالخوف من المستقبل وعسر التكيّف مع التغييرات يغدو «موضوع المرأة» الشماعة التي نعلّق عليها الأخطاء أو الورقة التي نوظفها للضغط أو الوسيلة التي نستغلها لـ «تلميع الصورة» والتموقع.
والناظر في الخطابات حول المرأة التونسية يلاحظ أنّها سارت في اتجاهين أولهما: خطاب تمجيدي تهيمن عليه عبارات ممجوجة كـ «حرائر تونس» و«ربيع النساء» و«نساء بلادي نساء ونصف» و«اللبؤات التونسيات» و... وهو خطاب يتماهى مع الخطابات السابقة منذ بناء دولة الاستقلال، الذي روّج لسردية المرأة التونسية «الأنموذج»، ولذلك فإنّ «أسطرة» تقلّد سعاد عبد الرحيم رئاسة بلدية تونس مندرج ضمن هذا التوجّه. وهو خطاب يتناسى الواقع الجديد الذي أضحت فيه التشاركية قاعدة وأن رئيسة البلدية لا تتحمّل لوحدها مسؤولية إدارة البلدية إذ تحلّ «روح عمل الفريق» محلّ «سياسة الفرد». ثمّ إنّ هذا الخطاب يتجاهل قاعدة ثانية تقوم على تجاوز الزوج المركز/الهامش فتولي المرأة رئاسة البلدية ليس حكرا على ولاية تونس بل شمل ولايات أخرى وشكّل الاستثناء في بعض الولايات عندما انتخبت شابات لهذا المنصب ولكنّهن لم ينلن كلّ هذا الاهتمام الإعلامي، وهذا يعني أنّ التحولات الطارئة في مستوى تجاوز الطبقة والسنّ غير مرئية بالنسبة إلى الإعلام المسؤول عن تشكيل الرأي العام. وبالإضافة إلى ما سبق يصرّ أصحاب هذا التوجه التمجيدي على تجاهل قاعدة ثالثة تكمن في أنّ الحكم على الأشخاص لا يمكن أن يكون استباقيا إذ لابدّ من تتبع أداء هذا المجلس البلدي ومدى خدمته للمواطنين بنزاهة وشفافية ثم تقييم ذلك الدور وفق مبدإ الحوكمة الرشيدة وما يتبعها من مساءلة. ولا يمكن أن نتغاضى عن التحوّل الطارئ في طبيعة هذا الخطاب التمجيدي إذ خضع للفرز وفق سياق الاستقطاب فالتمجيد لدى أغلبهن/هم، يخصّ «التقدميات» «الليبراليات» «الحداثيات» ... ولا يمكن أن تستمتع به من ينتمين إلى «المعسكر الآخر».
أمّا سمة الخطاب الثاني فهي «بكائية» إذ يتنكّر أصحاب هذا الخطاب لكلّ المنجزات التي تحقّقت ويستعيدون وهم «تكريم المرأة في العصور الأولى» وفق تمثّل خاصّ للتاريخ ويصرون على تجريد التونسيات اللواتي يناضلن من أجل حقوقهن من كلّ الفضائل. فلا غرابة أن يتجاوز أغلبهم «البكائيات» إلى استعمال العنف اللفظي وأن تتحوّل بشرى بالحاج حميدة إلى «عدوّة الله والمسلمين» وصاحبة المعول الذي يدكّ بنيان الأسرة والأخلاق والقيم و... بل إنّها أصبحت تهدّد الهويات الجنسية والجندرية وتروم تغيير السنن فأنّى للرجال أن يطمئنوا على امتيازاتهم وبشرى بالحاج حميدة تتدخّل في «قلفتهم»؟ وما يسترعي الانتباه في هذا الخطاب هو تعمّد تغييب عمل الفريق وشخصنة المسائل فبشرى هي وحدها المسؤولة ويعفى البقية من «المحاسبة الأخلاقية». ثمّ إنّ هذا الخطاب لا يفارق دوائر الخوف: الخوف من ضياع الامتيازات، الخوف من «استقواء النساء» ، الخوف على الدين، والأسرة والأخلاق... ولذلك اتسم هذا الخطاب بالتهافت والتناقض واستعمال العنف وسيلة للدفاع عن النفس، وعجز أصحابه عن تغيير عدّتهم المنهجية والاستدلال على أفكارهم بل أصروا على الهجوم بدل الاستدلال.
وبين هذين الخطابين المهيمنين حول «المسألة النسائية» نتبيّن ارهاصات تشكّل خطابات أخرى تحاول أن تتحرّر من أسر الاستقطاب، والأيديولوجيا والتحزّب والتمركز على الذات، وأن تتجاوز حدود الجندر والطبقة والسن والدين... إنّها خطابات تؤسس للممارسات المواطنية و«العيش معا» وفق عقد اجتماعي جديد وبراديغمات مختلفة ولكن لا أحد يأبه بها ويمكنّها من المرئية المطلوبة ذلك أنّ أصحابها يمثلون «الأقلية».

المشاركة في هذا المقال