Print this page

اغتيال الشهيد شكري بلعيد : الحدث المنعرج

نادرة هي الأحداث التي تهز شعبا بأسره ..فقد تحصل منها حالة في جيل كامل وقد لا تحصل ..

وهذا يصدق حتى على بعض الأحداث المفصلية والتي لا تجد حين وقوعها تلك الهزة النفسية التي شاهدناها في تونس منذ خمس سنوات حين تناقلت الجموع ذات صباح نبأ اغتيال الشهيد شكري بلعيد..

لقد كان شعورا غريبا ذاك الذي انتاب غالبية التونسيين إذ جسدت عملية الاغتيال الجبانة مخاوف أكثرهم.. فعلا لقد كنّا في الطريق الخطأ مع الترويكا .. لقد سمح تسامح الحكم الاسلاموي مع السلفية الجهادية والتطرف الإسلامي بظهور حالة من الخوف والرعب وباختراق العنف لحياتنا السياسية والفكرية والفنية وحتى الشخصية. لقد جسّد اغتيال شكري بلعيد كل هذا وبيّن أن العنف السلفي ليس فزاعة او ابتكارا نخبويا، بل واقع تهاونت معه -بل وتواطأت- حركة النهضة وحليفها حزب المؤتمر عندما كانا في الحكم، وما اغتيال الشهيد شكري بلعيد إلا حلقة متقدمة في مسلسل كان ينبئ بسيلان الدم التونسي ..
هنالك مسالة ينبغي أن نقف عندها جيّدا لنفهم كيف كان اغتيال الشهيد بلعيد منعرجا محوريا في تاريخ تونس الآني ..

لقد عرفت بلدان عدة الاغتيالات السياسية بل كادت أحيانا تتعود عليها .. ولاشيء كان يقول بأن تونس محصّنة ضدّ مثل هذه المآلات ..ولكن مسائل معقدة تداخلت مع بعضها صبيحة 6 فيفري 2013 لتجعل من اغتيال الشهيد حدثا استثنائيا فصل بصفة آنية بين مرحلتين كاملتين : مرحلة الإسلام السياسي المفتخر بانتصاره والمعتقد بان له تفويضا شعبيا ليغير البلاد ونمط حياتها وثقافتها وهويتها بصفة جذرية باستعمال كل الوسائل بما في ذلك أذرعته الغليظة من روابط حماية الثورة وبتسامحه مع السلفية الجهادية وكل حركات التطرف إذ لا ينبغي أن ننسى ما كان يردده الشباب النهضوي في مختلف تظاهرات 2012 : « وحدة وحدة إسلامية : نهضة وتحرير (حزب التحرير) وسلفية».
6 فيفري 2013 وضع حدّا لهذا الكابوس بخروج عدة مئات الآلاف من التونسيين في تلك الجنازة المهيبة (حوالي 1.3 مليون نسمة حسب مصادر من الجيش )..

حكم الترويكا سقط شكليا بعد أقل من سنة بواسطة الحوار الوطني ولكنه سقط فعليا ورمزيا يوم 6 فيفري وأصبح الحكم باتا بعد الاغتيال الثاني للشهيد محمد البراهمي يوم 25 جويلية 2013 وأضحى نهائيا ولا رجعة فيه بعد الكمين الغادر الذي ذهب ضحيته ثمانية من جنودنا البواسل يوم 29 جويلية من نفس السنة بالشعانبي ..
لقد أنقذت دماء هؤلاء الشهداء البررة البلاد من الانجراف كليا نحو العنف والهمجية وجعلت الغالبية العظمى من التونسيين يقتنعون بأنه لا ينبغي التساهل أو التسامح مع هذا الغول المخيف وانه لا يمكننا البتة أن نتعايش مع الإرهاب وان نسمح لمن تساهل معه بالبقاء في الحكم ..
هذا ماهي تونس مدينة به لا فقط اليوم بل وغدا أيضا ،ولكننا لم نعرف كيف نتعامل مع هذا الدين الذي هو في رقبتنا جميعا ..

ما هو واضح ولا يحتمل التأويل هو أن السلطتين السياسية والقضائية لم تبذلا كل جهدهما لمعرفة الحقيقة ،بل لقد تمّ التعتيم على جزء منها قد يكون هاما وذلك لأن قلم التحقيق رفض، رغم تعدد الطلبات، سبر أغوار كل الطرق والشبكات التي أدت إلى هذا الاغتيال بل حصر عنايته، عندما كانت له عناية، فقط في الحلقة الأخيرة، حلقة التنفيذ المباشر، ولم يعط قلم التحقيق لنفسه إمكانيات استجلاء مسؤولية الدوائر الأخرى..

لا نعتقد أن وحده تحميل المسؤولية القانونية لبعض القيادات النهضوية هو الذي سيشفي الغليل كما يقال..ما سيشفي الغليل هو كشف الحقيقة كل الحقيقة وبذل كل الجهد لاستقصائها وذلك ايا كانت نتيجتها حتى وإن خالفت ما يخالج أذهان البعض ..
دم الشهيد لا يستحق إلا الحقيقة ولا شيء غيرها ولكن عدم بذل الجهد لكشفها يضع بدوره أسئلة كثيرة حول هذا «الخوف»..

لا نحيي اليوم فقط ذكرى استشهاد قائد سياسي من طينة خاصة : بلاغة وحضور بديهة وقدرة حجاجية وتذوق للفن والشعر ،نحن نحيي كل هذا ونحيي دم شهيد لم يعد ملكا خاصا لأسرته أو لحزبه او لرفاقه ،بل أضحى شكري بلعيد ملكا يشترك فيه جل التونسيين ويرون اليوم في أقواله وحواراته التلفزية والإذاعية بصرا وبصيرة لما سيحدث ..
نحيي هذه الذكرى الخامسة لرحيل الشهيد وكل ما في البلاد اليوم في علاقة ما بدمائه الزكية ..ولكن عدم كشف حقيقة الاغتيالات السياسية ،كل الحقيقة، يجعلنا نخشى على تلفها و«ضياعها» في متاهات السياسة ..
الحقيقة وحدها تؤسس للمصالحة ..

 

 

المشاركة في هذا المقال