الصراع بين بعض دول الخليج جاء كنتيجة تباين المواقع والمصالح الإستراتيجية بين بعض دوله وأخذ عنوانه الأبرز – من قبل المحور السعودي الإماراتي المصري – كإعلان حرب شاملة على الإرهاب ..والإرهاب في القاموس السعودي الإماراتي هو إرهاب إيران وحلفائها بداية فالجماعات التكفيرية الجهادية،أي القاعدة وداعش، ثم ما يسمى بجماعات الإسلام السياسي أي حركات الإخوان المسلمين ..
أما الدول الراعية للإرهاب فهي من جهة إيران باعتبارها الراعية والحامية للإرهاب الشيعي (حزب الله – جماعات الحشد الشعبي في العراق – جماعة الحوثي في اليمن) وكذلك تنظيم القاعدة في العراق وداعش (حسب الدعاية السعودية ) والدولة الثانية هي قطر باعتبارها العاصمة الفعلية لجماعات الإخوان المسلمين (وهذه الحقيقة يصعب الجدال فيها ) ولدعمها الواضح وغير المشروط لاذرعة القاعدة في سوريا (جبهة النصرة وجند الشام) وأيضا لدعمها لتنظيم داعش (دائما حسب الدعاية السعودية الإماراتية)..
وبالتالي يكون قطع العلاقات مع قطر هو إيذان بحرب اقليمية ودولية ضدّ كل التنظيمات الإرهابية والدول الراعية لها..والجديد هنا هو إقحام كل حركات الإخوان المسلمين ضمن الجماعات الإرهابية واعتبار أن ما يفصلها عن السلفية الجهادية المعولمة والقاعدة وداعش إنما هي تفاصيل لا غير، وحرص دول الخليج هذه ، وخاصة الإمارات ، على حشد دولي لمناصرة هذا التوجه ووضع كل الجماعات والشخصيات الإخوانية على اللائحة الدولية للإرهاب ..
يبدو أن هذا هو أحد أهم رهانات الأزمة الخليجية الأخيرة وإن كان لا ينبغي بالمرة التقليل من البعد الطائفي السني الشيعي الذي يمثل بدوره أحد أبعادها الرئيسية..
لم كل هذه النقمة الخليجية على التنظيمات الاخوانية ؟
قد لا يفهم في الوهلة الأولى حجم العداوة الموجودة بين السعودية والإمارات من جهة وتنظيمات الإخوان المسلمين من جهة أخرى خاصة عندما نعلم أن السعودية كانت أول بلد احتضن إخوان مصر عند خروجهم من السجون الناصرية في بداية سبعينات القرن الماضي وان الودّ الاخواني الوهابي قد استمر على الأقل لعقدين من الزمن..
فما الذي حولّ الوئام السابق إلى تنافر دائم ؟..
عناصر كثيرة تفسر التحول في العلاقة بين الإخوان والنظم الوهابية لعلّ من أهمها أن الخليجيين الذي تأثروا بأفكار الإخوان وخاصة حسن البنا (المؤسس) وسيد قطب (أهم منظر للجهاد اخوانيا ) وكذلك أبو الأعلى المودودي (مؤسس الجماعة الإسلامية في
باكستان)..هؤلاء تشكلوا في جماعات فكرية عقائدية أصبح يطلق عليها في الخليج اسم : جماعة الصحوة (الإسلامية) وكان ينظر لهؤلاء الشباب والمثقفين نظرة ايجابية لأنهم مع نشاطاتهم الحركية ظلوا متمسكين بالعقيدة السلفية الوهابية وأصبح زعماء الصحوة في السعودية كعائض القرني وسفر الحوالي من قادة الرأي العام ولكن عندما جاءت الجيوش الأمريكية في صائفة سنة 1990 للجزيرة العربية ووطئت أقدامهم الأراضي السعودية استعداد القيادة الحرب على العراق التي احتلت الكويت آنذاك وألحقتها بها ..عندها انتقد زعماء الصحوة تحالف المملكة الوهابية مع الجيوش «الصليبية» فوضعوا في السجون وأذنوا بذلك لنهاية عقدي الودّ بين المملكة والإخوان ..
ويمكن أن نضيف عنصرا ثانيا بالغ الأهمية ويتعلق بالبنية السياسية للأنظمة الخليجية ..
الأنظمة الخليجية ترتكز كلها على تحالف قبلي يحكم في مجتمع كل ولائه للقبيلة ولشيوخها .. ولذلك رفضت كل المجتمعات الخليجية حتى تلك الأكثر تطورا والأنضج تجربة ديمقراطية وتعددية كالكويت قيام الأحزاب السياسية لأنها تحطم منطق الولاء القبلي وتحوله من شيخ القبيلة المطاع إلى زعيم الحزب..وخاصة إذا كانت تحوم حول هذا الحزب شبهات بولائه لقيادة دولية كما هو حال الإخوان المسلمين ..
وإذا ما أضفنا إلى كل هذا ما يقال في الإمارات العربية المتحدة بان الأمن قد أحبط سنة 2012 انقلابا دبره إخوان الإمارات بالتنسيق مع المرشد العام لإخوان مصر نفهم بوضوح سرّ العداء الراديكالي بين الإمارات خصوصا وتنظيمات الإخوان كلها ..
الإخوان في عين الإعصار..
منذ أن تم تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928 على يد حسن البنّا وعلاقة هذا التنظيم مع مختلف النظم العربية تتراوح بين فترات إغفال أو توظيف وفترات صدام ..وكان يجري كل ذلك دون أن تتدخل الدول الكبرى بشكل سافر في هذه العلاقة حتى حصلت تفجيرات نيويورك سنة 2001 وظهر خطر جديد على سطح الأحداث وهو الإرهاب السلفي الجهادي المعولم ..وهنا بدأت تهتم دوائر القرار الغربي ، أمريكيا وأوروبيا ، بصفة جدية بهذه التنظيمات التي تؤمن بأدلجة الدين وتسييسه دون أن تسلك طريق القاعدة التي تعمد إلى إرهاب معولم لا يستثني إلا من يعتبرون من عوام أهل السنة ..
وهنا بدأنا نسمع عن «الإسلام المعتدل» والمقصود به الإسلام الاخواني والذي سيصطلح عليه في الغرب بالإسلام السياسي في تمييز واضح مع جماعات الإسلام العنيف ..
واشتغلت مؤسسات التفكير وتم إنتاج عشرات التقارير عن السبل لدعم هذا «الإسلام المعتدل» في وجه «الإسلام العنيف والراديكالي» وتم تشجيع حكومات عربية عديدة لكي تدمج هذا الإسلام السياسي المعتدل في اللعبة السياسية وان كان على مراحل ..وحصل ذلك في الأردن ومصر والمغرب وكانت قطر من ابرز واشد المدافعين عن هذا التوجه بل أصبحت وكأنها العاصمة الدولية لجماعات الإخوان المسلمين ..
ودخلت تركيا على الخط بعد فوز حزب اردوغان في انتخابات 2002 رأت وريثة الخلافة العثمانية في جماعات الإخوان امتدادا لنفوذها السياسي ومن ثم الاقتصادي في العالم العربي ..
كانت كل مراكز البحث الغربية قبيل الثورات العربية تبشر بهذا الإسلام المعتدل القادر لوحده على قهر ودحر المتشددين والإرهابيين ..
وكان كل تشكيك في هذا التصنيف الملائكي لا يجد إلا الصد والسخرية في الدوائر السياسية والبحثية الغربية ..وكأننا بالمخيال الغربي لا يستسيغ في لاوعيه مرور المجتمعات العربية والإسلامية إلى ديمقراطية تتأثث من أحزاب علمانية ..فالإسلام «المعتدل» يكون إذن مرحلة انتقالية بين «الاستبداد الشرقي» و«الديمقراطية الغربية» ..
لهذا كانت هذه الدوائر سعيدة جدا بوصول «الإسلام المعتدل» إلى السلطة في تونس ومصر بعد الربيع العربي وفي المغرب كذلك وان كان في سياق سياسي مختلف ..وللتذكير فنفس هذه الدوائر قد نددت بانتصار حماس الاخوانية في فترة سابقة ..فامن العرب ليس كامن إسرائيل ..ولكن تجربة حكم الإخوان في مصر وتونس على قصرها أثبتت الضعف الكبير لنظرية «الإسلام المعتدل» وانه لا يملك من هذا الاعتدال المفترض سوى شيء من البراغماتية السياسية عندما يضطر إليها وأن الحدود بينه وبين الجماعات الإرهابية السلفية الجهادية المعولمة ليست بهذه الصرامة والقواسم المشتركة بين كل جماعات الإسلام السياسي (الإخوان –التحرير – السلفية – السلفية- الجهادية المعولمة) أكبر بكثير من نقاط الاختلاف وأنهم في بلدان عديدة يشتغلون بنوع من التنسيق بينهم رغم العداوة التاريخية بين مختلف هذه الفصائل ..
والأهم من كل ذلك أن حكم الإخوان «المعتدل» لم يتمكن من إضعاف الإسلام « الغاضب» بل بالعكس زاده اتساعا وقوة ممّا بيّن التهافت النهائي لنظرية السلام السياسي المعتدل كخير صدّ أمام الإسلام المتشدد العنيف ..
قطر والسعودية
وتدريجيا بدأت تتحول وجهة دوائر القرار السياسي والبحثي الغربي من اعتبار أن هنالك شرخا بين السلفية الجهادية والإخوان المسلمين إلى القول بنوع من الترابط بين كل مكونات الإسلام الحركي ( l’islamisme activiste) من الإخوان والتحرير إلى السلفية الجهادية المعولمة مرورا بكل الطيف السلفي ..ولم تنج من هذه التصنيفات إلا الحركات الصوفية أو جماعات التبليغ المبتعدة كليا عن العمل السياسي..
وكل هذه الدوائر تقريبا تقحم الوهابية ضمن الايدولوجيا الاسلاموية المتشددة المحرضة على التباغض الديني وعلى العنف..
ولذلك تجد المملكة السعودية صعوبات كبيرة في إقناع الدول الغربية بأنها تحارب الإرهاب والتشدد الديني بصفة فعلية بل ما تقره كل الدراسات الجدية اليوم هو أن نقاط الالتقاء بين العقيدة الوهابية والإيديولوجية الإرهابية السلفية الجهادية المعولمة بشقيها القاعدي والداعشي هي أكثر من أن تحصى وان الفروق بينهما إنما هي في الجزئيات لا غير ..
وهذا معنى كلام الرئيس الأمريكي ترامب أول أمس عندما طالب عدة دول لم يسمها ببذل جهد اكبر في مقاومة الإرهاب..
فخلاصة القول هو ان صناع القرار الدوليين يميلون إلى الاعتقاد بان جماعات الإخوان المسلمين حتى وان لم تكن ضالعة بصفة مباشرة في الإرهاب فإنها جماعات تتبنى إيديولوجيا شمولية متشددة وان هذا التشدد والراديكالية يجعل المرور منها إلى الجماعات التكفيرية الإرهابية أمرا سهلا والأوربيون خاصة قد توصلوا إلى ما يشبه الحقيقة عندهم اليوم وهو الدور السلبي الذي تلعبه الجماعات والجمعيات المنبثقة عن الإخوان في أوروبا في التوتر الطائفي وفي تعسير إدماج المسلمين في الحداثة الغربية ..
فمن هذه الجهة يكون التركيز الخليجي على ضرورة محاربة كل أشكال الإسلام السياسي والاخواني خاصة مقبولا جدّا عند الغربيين ولكن هذا يمر حتما عبر إجراءات جدية لا فقط ضد قطر بل وكذلك ضد الجماعات والمؤسسات الوهابية داخل الدولة السعودية ذاتها..
فالدوائر بدأت تضيق على الجماعات الاخوانية ولكن نفس هذه الدوائر ستضيق أيضا على المنظومة الوهابية ..فاستهداف قطر الراعي الأول للاخوان المسلمين لا يمكن أن يصل إلى غاياته القصوى (إجبار قطر على تغيير سياساتها الداعمة للإسلام السياسي )إلا متى كانت هنالك حركة في نفس الاتجاه ضد السعودية ثم تركيا وإيران ..
يقول الإفرنج بان الشيطان يسكن في التفاصيل ..
والواضح اليوم أن كل جماعات الإسلام السياسي متحصنة في تفاصيل الاختلاف الخليجي والدولي ..
ولكن الأحوط والأسلم هو ما قاله العرب القدامى : الحيلة في ترك الحيل ..