Print this page

قوانين 2026 وسياسات التشغيل: إدارة أزمة اجتماعية أم استثمار في المستقبل ؟

دخلت سوق الشغل في تونس منذ بداية الألفية في

أزمة هيكلية سعت كل أنظمة الحكم لإدارتها بمقاربة اقتصادية يقال بشأنها الكثير، لكن اليوم ومع صدور كل من قانون مالية 2026 والقانون عدد 18 الخاص بتشغيل أصحاب الشهادات ممن طالت بطالتهم، نحن إزاء تحول جوهري في مقاربة السلطة لمعالجة أزمة التشغيل في البلاد.

هذا المتغير هو إقرار السلطة الضمني بعمق الأزمة وبأن سوق الشغل لم يعد يُدار بمنطق الاقتصاد بل بمنطق إدارة أزمة اجتماعية مزمنة. فالتشغيل، كما تنظر إليه الدولة اليوم، لم يعد نتيجة مرتبطة بالنمو أو امتداد طبيعي للاستثمار، بل بات هو الهدف بحد ذاته، إذ اختزلت السلطة نظرتها إليه كأداة تهدئة اجتماعية، وهو ما تكشفه الخطابات السياسية وحزمة القوانين الجديدة الصادرة خلال شهر ديسمبر الحالي.

ففي تونس، التي لم تعد أزمة التشغيل فيها ظرفية يمكن تطويقها عبر تعديل السياسات العمومية أو إجراءات استثنائية، اختارت السلطات أن تكون إدارتها للملف مرتكزة على سياسات تدبير لاحتواء الأزمة الاجتماعية قبل وقوعها، أكثر منها سياسات تنمية، أي بمقاربة ذات طابع اجتماعي قد تكون فعّالة ظرفياً لكنها غير قادرة لوحدها على تجاوز الأزمة في سوق الشغل.

فأزمة التشغيل في تونس، التي يعبر عنها بشكل مثالي نسبة البطالة في صفوف خريجي التعليم العالي، والتي تجاوزت 24 بالمئة خلال الثلاثي الثالث من هذه السنة، هي أزمة هيكلية تصلح لأن تكون عنواناً لأزمة أعمق تتعلق بطبيعة النموذج الاقتصادي التونسي وبخيارات الدولة السياسية والاجتماعية. فارتفاع البطالة، وخاصة في صفوف أصحاب الشهادات العليا، اليوم في تونس ليس نتيجة صدمة اقتصادية محلية أو عالمية عابرة، بل هو نتيجة تراكم اختلالات هيكلية ممتدة منذ عقدين، كشفت عن بلوغ المنوال التنموي حدوده القصوى، فلم تعد محركاته تعمل بكل اقتدار ونجاعة لتحقيق هدفين رئيسيين هما خلق الثروة والتشغيل. وهي أزمة تعذر على كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد معالجتها جذرياً، بل بحثت عن احتواء تداعياتها وتخفيف أعراضها بإجراءات متنوعة بحثت عن تخفيف التوتر الاجتماعي بالأساس. وهذا المنطق لم يتغير منذ الثورة إلى اليوم، إذ باتت السياسات العمومية في التشغيل، كما هو الحال في قانون المالية 2026 والقانون عدد 18، بمثابة مرافقة اجتماعية لفئات من التونسيين وسعي لمنع أي انفجار أكثر منها مشروعاً لإصلاح سوق الشغل.

فوفق المنطق الاقتصادي، ينمو سوق الشغل كنتيجة طبيعية للنمو والاستثمار واتساع النشاط الإنتاجي، أما في الحالة التونسية فلم يعد سوق الشغل مرتبطاً بالحركية الاقتصادية، بل منفصلاً عنها وكأنه قطاع قائم بذاته ولذاته، إذ أصبحت الدولة المحرك الأول والرئيسي في سوق الشغل، سواء من خلال حوافز موجّهة للقطاع الخاص أو انتدابات قياسية في الوظيفة العمومية أو إجراءات استثنائية ومباشرة لمعالجة البطالة طويلة الأمد في صفوف خريجي التعليم العالي.

حزمة من الإجراءات والسياسات تكشف عن هيمنة منطق إدارة التوتر الاجتماعي أكثر من إعادة بناء سوق الشغل، الذي تأثر سلباً بوضع اقتصادي أبرز سماته الركود التضخمي وضعف الطلب وتراجع الاستثمار وهشاشة التوازنات المالية العمومية. وضع تدركه السلطات التي اختارت أن تعود بقوة إلى الانتداب العمومي، في اعتراف ضمني بفشل السوق في استيعاب آلاف العاطلين، وخاصة من حاملي الشهادات العليا، لعوامل متعددة، من بينها ضعف النمو وهشاشته وعدم ملائمة التعليم مع متطلبات السوق وغيرها من المحددات التي أدت إلى أزمة سوق الشغل، والتي اختارت السلطة أن تتجاوزها وتذهب إلى لعب دور المشغل الأول والأخير.

هذا الدور يصبح مكثفاً عبر القانون الخاص بتشغيل العاطلين من أصحاب الشهادات العليا. فالمقاربة التي قدمها المشرع التونسي عبر قانونه، الذي حظي بدعم وقبول من السلطة التنفيذية، تنطلق في معالجة أزمة التشغيل من منطق الإنصاف الاجتماعي لا من منطلق الحاجيات الاقتصادية، وهو أيضاً ما يطل باستحياء في مشروع قانون المالية، سواء عبر تسوية وضعيات أو انتداب مباشر لقرابة 55 ألف عامل وموظف وإطار جديد سيلتحقون بالوظيفة العمومية والقطاع الخاص خلال 2026.

هذا الخيار قد يكون مفهوماً من زاوية الاستقرار الاجتماعي، لكنه يصبح غير منطقي إذا نظرنا إلى المخاطر المسلطة على استدامة المالية العمومية وعلى استدامة سوق الشغل نفسه، فدور المشغل الذي تمنحه الدولة لا يهدف إلى تلبية حاجات إنتاجية حقيقية، بل يبحث عن استيعاب بطالة متراكمة، وذلك على حساب المالية العمومية التي قد تشهد تداعيات تضخم كتلة الأجور دون أن يتحقق مردودية تحول الوظيفة العمومية إلى أداة تنمية.

فهذه السياسات العمومية لا تنطلق من أن البطالة هي عارض لازمة اقتصادية أشمل وأعمق تتجسد في ضعف الطلب على اليد العاملة الماهرة والمتخصصة، بل تقاربها على أنها ملف اجتماعي استثنائي خارج عن منطق السوق. فهي لا تنظر إلى البطالة الطويلة في صفوف حاملي الشهادات العليا على أنها عارض يكشف عن اختلال في منظومة التعليم وسوق الشغل وسياسات الاستثمار والتنمية الجهوية التي فشلت في إدماج الشباب في سوق العمل، بل ملف اجتماعي يتطلب معالجته نقل المشكلة من سوق الشغل إلى ميزانية الدولة، في مقاربة تسوّق على أنها اجتماعية وإنسانية، لكنها تكشف في عمقها عن فشل هيكلي، بالإضافة إلى إدراك سياسي بأن السوق، بصيغته الحالية، عاجز عن استيعاب الضغط الاجتماعي المتزايد، وأن الدولة مضطرة للتدخل لتفادي الانفجار، حتى وإن كان ذلك على حساب النجاعة الاقتصادية والاستدامة المالية، بل وعلى حساب الوافدين الجدد إلى سوق الشغل.

فنظرة إلى المؤشرات العامة لسوق الشغل في تونس تكشف أن المشكلة أعمق من مجرد نقص في فرص الشغل يمكن أن تعالج بشكل استثنائي. الأزمة هيكلية تتضمن اختلالاً واضحاً بين مخرجات منظومة التعليم وحاجيات الاقتصاد، واتساعاً للقطاع غير المنظم الذي يستوعب نسبة كبيرة من اليد العاملة خارج أي حماية اجتماعية، وغيرها من المعطيات التي تؤكد أن سوق الشغل يعاني ضعفاً في المرونة، وأن السياسات العمومية تشتغل في الغالب بمنطق التجزئة لا بمنطق الرؤية الشاملة.

وهو ما يعزز الانطباع بأن الأولوية هي إدارة التوازنات الاجتماعية في ظل ضعف النمو وغياب أفق اقتصادي واضح. ويتجسد ذلك بتدخل الدولة من اجل الحفاظ على الاستقرار عبر أدوات تشغيلية، لتؤجل طرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بالمنوال الاقتصادي، والقطاعات القادرة على خلق الثروة، وموقع التعليم والتكوين في هذا المنوال.

وفي غياب إصلاحات هيكلية عميقة، تصبح سياسات التشغيل مجرد أدوات لشراء الوقت، لا لبناء مستقبل. فالسياسات العمومية التي تفتقر إلى رؤية استراتيجية متماسكة تربط بين التشغيل والنمو، وبين التعليم والاقتصاد، وبين العدالة الاجتماعية والنجاعة الاقتصادية، ستظل أسيرة منطق إدارة البطالة، وسيظل التشغيل في تونس رهين الحلول الاستثنائية، وستظل الأزمة قائمة، وإن تغيّرت أدوات إدارتها

المشاركة في هذا المقال