Print this page

سباق تسلح عالمي متعدد الأطراف: إنفاق قياسي واستعداد دائم للصراع

لا تندلع الحروب بين القوى الكبرى من فراغ

بل من تراكم أدواتها وانتظار حلول الوقت المناسب لها، هذا ما يخبرنا به التاريخ، فحينما يشتد سباق التسلّح وتتضخّم جيوش وتتسارع التكنولوجيا العسكرية بوتيرة تحول دون قدرة الأدوات السياسية على ضبطها تقع الحرب بمجرد شرارة، فالحروب الكبرى لم تكن يوما قرارا «لحظيا» بل نتيجة لمسار طويل تراكمت فيه عناصر جعلتها ممكنة، بل حتمية.

ففي كتابه «السلام والحرب: نظرية في العلاقات الدولية» الصادر 1962 يقول ريموند آرون (Raymond Aron) «حين تتراكم أدوات الحرب أكثر من أدوات السلام، يصبح اندلاع الصراع مسألة توقيت لا قرار». حيث يستنتج الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ان تكدس القوة المادية دون إطار دبلوماسي مواز يجعل السلام حالة هشة ومؤقتة، وهو مايقود في النهاية الى الحروب على غرار الحرب العالمية الاولى والثانية.

واليوم هذا ما نواجهه، وان كان التاريخ لا يكرّر حرفيا، لكن نحن إزاء ذات المسار الطويل الذي قادنا الى الحروب الكبرى، ميزانيات عسكرية تبلغ مستويات قياسية، عقائد دفاعية تتغيّر، واتفاقيات ضبط تتآكل واحدة تلو الأخرى. سباق تسلّح جديد يتشكّل، لا بين قطبين واضحين كما في الماضي، بل بين عدّة لاعبين من آسيا إلى أوروبا، مما يفرض طرح سؤال جوهري، ماذا يحدث اليوم في العالم وما قد يحدث حينما يتقدّم منطق القوة العسكرية على منطق السياسة،ويف يمكن منع نشوب حروب في ظل ضعف وتآكل مؤسسات الضبط الدولية التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية؟

أسئلة قد لا تبرر الصورة الظاهرة والانطباع الذي تتركه لدى الناظر، طرحها، ولكن رغم ان المشهد الدولي يبدو موزعا بين أزمات متباعدة مستمرة في الزمن، كحرب روسيا وأوكرانيا التي باتت حربا أوروبية، او كالتوتر المزمن في الشرق الأوسط وتصعيد الاحتلال لتجاوزاته، او المناوشات الدبلوماسية في شرق آسيا التي تكون فيها الصين طرفا. كلها ازمات متباعدة قد تبدو منفصلة في ظاهرها، ولكنها تكشّف عن مسار واحيد يتقدّم بثبات، وهو ان العالم يسلّح نفسه من جديد، وان كان ذلك لا يعني ان العالم بات على مشارف الحرب فانه يؤكد ان الجميع بات على استعداد للمتغير في الساحة الدولية وهو ان الصراع بات قاعدة لا استثناء.

ففي السنوات القليلة المنقضية، منذ 2022 ارتفعت الميزانيات العسكرية لعدد لا باس به من الدول بوتيرة غير مسبوقة، ورافق هذا الارتفاع تغيّر في العقائد الدفاعية، في تحول قد يكون بحر الصين ومحيطه اي الدول المطلة عليه افضل مثال يختزله، ففي هذه الرقعة خلال الأسابيع القليلة الفارطة أبرمت صفقات سلاح ورفع من ميزانيات الدفاع في كسر لمحظورات تاريخية، خاصة بالنسبة لكل من تايوان واليابان.

اذ اعلنت وزارة الخارجية الأميركية منتصف هذا الشهر، موافقتها على صفقات أسلحة لتايوان بقيمة تقترب من 11 مليار دولار، ستمكن الجزيرة من تعزيز ما تسميه الردع غير المتكافئ في مواجهة الصيني، هذا الردع خصصت له تايوان ميزانية في سنة 2025 تقدر بـ 40 مليار دولار وهو مستوى قياسي غير مسبوق في تاريخها، وهو محمل بالدلالات.

والامر ذاته بالنسبة للتحوّل الياباني في العقدية العسكرية، اذ أقرّ البرلمان الياباني ميزانية للدفاع تقدر بـ58 مليار دولار وهي ايضا قياسية وغير مسبوقة لا فققط في حجمهت بل في أبواب انفاقها، وأبرزها تطوير صواريخ بعيدة المدى من طراز Type-12 بمدى يقترب من 1000 كيلومتر، مع توسيع قدرات الدفاع الجوي، والاستثمار في الطائرات المسيّرة وأنظمة المراقبة البحرية ، في سابقة هي الأول منذ الحرب العالمية الثانية.

وحجم الانفاق هنا وتوزيعه تعلن من خلاله طوكيو عن تحوّل نوعي في عقيدة دولة العسكرية التي لطالما قيّدها دستورها السلمي. وهذا ما جعل من شرق آسيا المسرح الأبرز لهذا السباق نحو التسلح، الذي انطلق اليوم في بحر الصين الجنوبي ومحيطه، وهو المجال الاقتصادي المهم الذي تمر منه ثلث التجارة البحرية العالمية، وهو ساحة التماس المباشر بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها الذين يعززون من تشبيكهم الأمني لمواجهة ما يعتبرونه الخطر الصيني، في اشارة الى تنامي مخاوفهم من تسارع وتيرة تطوير الصين لجيشها وتزويده بآليات ومعدات حربية متطورة، وهذا أيضا من أوجه سباق التسلح.

لكن سباق التسلح ليس منافسة اقليمية في شرق آسيا، بل هو عالمي، وهذا ليس توصيفا أو استعارة سياسية، بل حقيقة ومعطيات تثبتها الأرقام والقرارات السيادية الصادرة عن كبرى الدول خلال 2024 و2025. فوفق معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، بلغ الإنفاق العسكري العالمي في 2024 نحو 2.7 تريليون دولار، وهو أعلى مستوى منذ نهاية الحرب الباردة، مع تأكيد المعهد في تقريره الصادر في أفريل الفارط أن الاتجاه التصاعدي للإنفاق العسكري مستمر دون مؤشرات قريبة لتراجعه.وهو ما يسلط الضوء على دقة المرحلة الحالية التي تتميز بسباق تسلح متعدد الأطراف، أقل انضباطا.

فما يميّز سباق التسلّح الحالي ليس فقط اتساعه، بل غياب كوابحه. في ظل تجميد اتفاقيات الحد من التسلّح، وتراجع الثقة بين القوى الكبرى، وهذا ما يكشف القرار الاوروبي بزيادة الإنفاق العسكري بحوالي 17 % سنة 2024، وهو ما يفوق المعدل العالمي، وهذا يبين ان حرب الروسية الاوكرانية اعادة ترتيب الاولويات الامنية الاوروبية وفرضت إعادة التسلّح على طاولات السياسات الدفاعية في تحوّل استراتيجي في البنية الأمنية الأوروبية التي انكشف فيها محدودية الاكتفاء بالمظلّة الامنية الأميركية وحدها، وهو ما دفع بمفاهيم مثل “الردع الذاتي” و”الجاهزية للحرب طويلة الأمد” إلى صلب التفكير الاستراتيجي الأوروبي.

و هذا التحوّل لا يمكن فصله عن السياق الدولي العام، حيث لم تعد الأزمات تدار بمنطق الاحتواء، بل بمنطق الاستعداد للأسوأ. فان كانت أوروبا قد تسوق انها وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة التسلّح تحت ضغط الحرب الروسية-الأوكرانية وسياسات ادارة ترامب الامنية، فإن ما يجري في شرق آسيا يبدو أقرب إلى سباق استباقي، لا ينتظر اندلاع الحرب ليبرّر نفسه. فالدول المعنية هناك لا تعيد تسليح جيوشها ردّا على حرب قائمة، بل تحسّبًا لحرب محتملة، وهو فارق جوهري في فهم طبيعة السباق الحالي.

ويجعل سباق التسلّح الراهن أكثر خطورة من سابقاته، فالدول الكبرى والقوى الإقليمية لم تعد تتعامل مع التسلّح كأداة ردع مؤقتة، بل كخيار بنيوي لإدارة موقعها في النظام الدولي. بما يعلن ان التسلّح اليوم بات مرتبط بالنفوذ الاقتصادي والسياسي. وفي هذا السياق، يصبح كل توتر او صراع اكثر من مجرد ساحة نزاع إقليمي بل خطر عالمي، اذ يكفي ان يحدث خطأ في الحسابات لنكون امام سلسلة من ردود الفعل المتشابكة بين قوى تمتلك قدرات تدميرية هائلة.

والأخطر هنا ليس فقط في سباق التسلّح ذاته، بل في الفراغ السياسي الذي يرافقه. فالمؤسسات الدولية التي أُنشئت عقب الحرب العالمية الثانية لضبط التوازنات ومنع الانزلاق نحو الحروب الكبرى، باتت اليوم عاجزة و مُهمَّشة عن حل وحسم اي صراع، وهذا ما قاد ولو جزئيا الى ما نشاهده اليوم، عالم يسلّح نفسه لأنه لم يعد يثق في الادوات الدبلوماسية، وفي القانون الدولي.

وهنا وجب الانتباه ان هذا لا يعني أن العالم يقف على أعتاب حرب عالمية وشيكة، بل يعني الاستعداد لها أصبح سياسة معلنة وكل طرف يسلّح نفسه باسم الردع، وهنا تكمن المقارفة الخطيرة، اذ أن تراكم الردع المتبادل في غياب ضوابط مشتركة وأدوات ضبط، قد تحوّل الردع من عامل استقرار إلى عامل تفجير للصراعات.

ذلك ان سباق التسلّح ليس إعلان حرب، لكنه ليس ضمانة سلام. بل تعبير عن عالم فقد يقينه،وهذا ما يجعل اللحظة الراهنة دقيقة، ليس لأن الحرب حتمية، بل لأن شروطها تتراكم بصمت

المشاركة في هذا المقال