Print this page

تداعيات مطلب الاستقالة للأمين العام: حين تتكشّف أزمة الاتحاد... وأزمة البلاد

لم تكن خطوة نور الدين الطبوبي بتقديم طلب استقالته

من الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل حدثًا داخليا صلب المنظمة النقابية، ولا مجرّد إجراء تقني قد يوحي بان الخلاف صلب المنظمة لم يعد بالهين، بل هو لحظة كاشفة لأزمة عميقة داخل الاتحاد انفجرت في زمن وطني بلغ الحساسية، اذ تعيش البلاد واحدة من أدقّ مراحلها السياسية والاجتماعية.

هذا الطلب الذي لم تشرح أسبابه بشكل رسمي ومباشر، سواء من الأمين العام او من باقي أعضاء المكتب التنفيذي اذ تم الاكتفاء بتأكيد نبأ تقديم طلب الاستقالة، التي تزامنت مع احتدام الخلاف حول المؤتمر المقبل للاتحاد طبيعته وموعده، شرعيته، وتركيبة القيادة التي تنبثق عنه. مما قد يجعل الانطباع الاولي يربط بين تقديم الطلب وازمة المؤتمر في إختزال لما يعيشه الاتحاد اليوم في عنوان تنظيمي قد يحجب بقية العناوين، التي تضمن أزمة القيادة وأزمة الدور وأزمة علاقة بالسلطة، أزمات اجتمعت لتضع الاتحاد في وضعه الراهن أي أمام مفترق طرق.

فالاتحاد، الذي شكل تاريخيا قوة توازن في الدولة والمجتمع، عرف منذ مؤتمر الاستثنائي تصدعات تطورت بمرور الزمن وتراكم الأزمات لتهز الصورة الذهنية عن المنظمة التي رسخت في أذهان التونسيين من فاعلين في المشهد او مشاهدين، جسم تنظيمي/ شقف وفق تعبير امينه العام الأسبق الحبيب عاشور، يتسم بالتماسك والقدرة على ادارة خلافته بعيدا عن الأعين لضمان قدرته على فرض إيقاعه في المفاوضات الاجتماعية والسياسية.

لكن خلال السنوات القليلة الفارطة أدت التصدّعات الداخلية وخاصة صلب المكتب التنفيذي والتباينات الحادّة بين مختلف الهياكل الى إنهاك داخلي تفاقم بنهج السلطة الرافض للحوار مع الاتحاد، وهي عناصر التقت جميعا لترسيخ بيئة غير سليمة للعمل، ولكن البيئة بمفردها قد لا تفسر لماذا تقدم الأمين العام بطلب الاستقالة، الا ان وضعت في سياقات ذاتية أيضا، تتعلق بالأمن العام نفسه بوضعه صلب هياكل المنظمة التي يعتبران جزء منها تريد ان تقدمه كمصدر وسبب لكل أزمات الاتحاد والتنصل من مسؤوليتها، وهنا الأمر لا يستثني أعضاء من المكتب التنفيذي .

كما ان هذه الأزمة لم تصنع داخل الاتحاد وحده. ففي السنوات الثلاثة الاخيرة شهدت علاقة السلطة بالاتحاد تحولا جذريا اذ باتت تنظر اليه كخصم يجب تحييده او على الأقل تحييد قياداته الحالية، التي طالها نقد السلطة واتهمها المبطن بالفساد، وهو ما فاقم من الضغوط الخارجية والداخلية على المنظمة تاريخية وجعلها تحرك في مناخ سياسي معاد، دون أدوات ضغط كافية، ودون وحدة داخلية صلبة تسمح لها بالصمود والقدرة على التاثير.

جميع كل هذه العناصر والعوامل تحيل الى ان تقديم طلب الاستقالة ليست فقط نتيجة صراع داخلي، بل هي تعبير عن أزمة مزدوجة انسداد داخل الاتحاد وتفاقم أزمة، وانسداد في الأفق السياسي العام. وهو ما يكشف عن سؤال أعمق مضمونه هل ما زال الاتحاد قادرا على لعب دوره التقليدي كقوة اجتماعية ضاغطة، أم أن شروط هذا الدور قد تغيّرت جذريا؟.

سؤال لا يمثل اقدام الأمين العام على طلب الاستقالة قادحا لطرحه ولا جزء من إجابته، لكن هذه الخطوة في المقابل فرضت نفسها على المشهد وأحدثت تتقاطع لفرضيات متباينة باتت تنطلق من كيف ستتطور الأحداث خلال الأيام القادمة، هل يقع إقرار الطلب او يسحب من قبل صاحبه نتيجة جهود الوساطة والبحث عن توافق لتجاوز ابرز عناوين الأزمة وهو المؤتمر.

هذه الفرضية التي انطلقت من تراجع الطبوبي على طلب استقالته تسلط الضوء بشكل مباشر على احتمال ان يكون الامين العام أقدم على خطوته التكتيكية للضغط على الهياكل من أجل حسم موعد المؤتمر الاستثنائي والانطلاق فيه، يقابلها فرضية مغايرة كليا، تنظر الخطوة على أنها قرار نهائي من الأمين العام وين يتراجع عنها مما يعنى بالنسبة للبعض فرصة نادرة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، وعقد مؤتمر دون تعجل بهدف ضمان شروط الديمقراطية النقابية، بما يسمح بإفراز قيادة جديدة أكثر قدرة على استعادة ثقة القواعد، لكن هذا لا يعنى ان الازمة ستنجلي وان المنظمة ستتجه الى المؤتمر في سياقات طبيعية.

بل قد تواجه ارتدادات الاستقالة ان وقع إقرارها، وتؤدي الى تفاقم الانقسام، بما يؤدي الى شلل القيادة، يحوّل الاتحاد إلى ساحة صراع مفتوح بين «الاخوة» وهذا من شأنه ان يضعف قدرته على التحرك وخوض معارك اجتماعية كبرى، في وقت تزداد فيه الضغوط الاجتماعية في البلاد.

فخطوة الامين العام اي كانت تطوراتها في القادم، سيكون لها انعكاس مباشر على ما يجري في البلاد، التي تعيش اليوم على وقع الهيمنة السياسية للسلطة على الفضاء العام في ظل برمان مشتت وضعيف واحزاب تصارع للبقاء والتقاط الانفاس، ومجتمع مدني منهك. وضع يضاف اليه اليوم الفراغ الذي سيتركه الاتحاد الذي يعتبر آخر الأجسام القادرة — ولو نسبيًا — على لعب دور في المشهد وقادر على ضبط التوازن— ولو جزئيًا — من اجل الاستقرار الاجتماعي.

ففي النهاية، الامر لا يتعلق بمصير الأمين العام لا باسم من سيخلفه. السؤال الحقيقي هو: هل ينجح الاتحاد في تحويل هذه اللحظة إلى لحظة مراجعة وتجديد، أم تتحوّل إلى بداية أفول دوره التاريخي؟ والسؤال الاهم هل تحتمل البلاد مزيدًا من تفكيك الأجسام الوسيطة، أم أن كلفة ذلك ستكون أكبر مما يعتقد.

ما بعد استقالة الطبوبي ليس شأنا نقابيا داخليا. إنه فصل جديد في قصة تونس قصة لم يكتب عنوانها الأخير بعد

المشاركة في هذا المقال