Print this page

تونس في حسابات القوى الكبرى: قراءة في الموقع الجديد

بات حضور تونس في الدراسات والتقارير الصادرة

عن المؤسسات البحثية الدولية يقترن، بشكل متزايد وإن كان غير مباشر، بمفهوم “الأصل” أكثر مما يقترن بسرديات السياسة أو الديمقراطية. فزاوية النظر إلى تونس وملفاتها من قبل هذه المراكز، خاصة في عواصم القوى الكبرى، لم تعد تستحضرها بوصفها تجربة سياسية متعثرة أو قصة انتقال ديمقراطي لم تكتمل، بل باعتبارها موقعاً اقتصادياً قابلا للتوظيف ضمن ترتيبات إقليمية أوسع.

تتجلى هذه المقاربة بوضوح في وثيقة حديثة صادرة عن معهد واشنطن، تناولت التحولات الاجتماعية والاحتجاجية التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الماضية، لكنها انتهت إلى خلاصة تتجاوز التشخيص السياسي المباشر، مفادها أن تونس لم تعد، في نظر الغرب، ملفاً سياسيا بقدر ما أصبحت ملف استقرار اقتصادي وسلسلة إمداد محتملة في جنوب المتوسط. بهذا المعنى، انتقلت تونس في التصور الغربي من كونها مشروعاً سياسياً إقليمياً إلى مسألة إدارة استقرار وظيفي (stability management).

تُظهر الوثيقة أن الولايات المتحدة، وبدرجة أقل الاتحاد الأوروبي، لم يعودا ينظران إلى تونس من زاوية منع انهيارها السياسي أو إعادة توجيه مسارها الديمقراطي، بل من منظور اقتصادي–أمني يختزلها في كونها مصدرا محتملا للمخاطر على الحدود الجنوبية لأوروبا، إذا ما تفاقمت أزماتها الاقتصادية والاجتماعية بما قد يفضي إلى موجات جديدة من الهجرة غير النظامية وعدم الاستقرار العابر للحدود. ومن هذا المنطلق، تصبح أولوية الغرب هي منع التدهور، لا الاستثمار في التحول.

ولتحقيق ذلك، تسوّق المقاربة الغربية لفكرة إدماج تونس في سلاسل الإمداد الغربية التي يعاد تشكيلها في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية. ويجري تقديم القرب الجغرافي من أوروبا، والارتباط التاريخي بالأسواق الأوروبية، وتوفر يد عاملة في سنّ النشاط، باعتبارها عناصر موضوعية يمكن توظيفها لإدماج تونس في التجارة العالمية. غير أن هذا الإدماج لا يُتصوَّر على أساس تحويل تونس إلى مركز إنتاج إقليمي متكامل، بل كحلقة وظيفية في بعض مراحل سلاسل القيمة، خاصة في الصناعات المتوسطة القيمة.

تعكس هذه الرؤية تصوراً يرى في تونس أصلاً ينبغي إبقاؤه داخل المدار الغربي، ومنع انجرافه نحو شراكات بديلة لا تخدم سلاسل القيمة الغربية ولا تضمن الاستقرار على المدى المتوسط. فالاقتصاد هنا لا يطرح كغاية تنموية في حد ذاته، بل كأداة لإدارة المخاطر، وهو ما يؤكد أن تونس لم تعد، في المخيال الغربي، شريكا سياسيا، بل أصلاً جغرافيا–اقتصاديا يدار وفق منطق النفع والاحتواء.

وتكشف هذه المقاربة، الخارجة عن المقولات الكبرى لاستراتيجيات الأمن القومي الأمريكية وأولويات الاتحاد الأوروبي، أن تونس لا تزال مهمة في الحسابات الغربية، وإن لم تكن مركزية فيها. فهي لا تمثل رافعة ديموغرافية كبرى، ولا مركز إنتاج صناعي متكامل، لكنها تُذكر بوصفها دولة صغيرة، قريبة من أوروبا، وقابلة للاندماج السريع في بعض حلقات سلاسل الإمداد، شريطة توفير حد أدنى من الحوكمة والاستقرار. وهو تحول جوهري عن التصور السابق الذي تعامل مع تونس باعتبارها نموذجا سياسيا وقصة نجاح محتملة يمكن الاستثمار فيها، ويفسر في الآن ذاته لماذا عُدّلت السياسات الغربية باتجاه الإصلاحات الاقتصادية الصامتة بدل المواجهات السياسية العلنية.

ولا تختلف هذه الرؤية الغربية كثيرا، في جوهرها الوظيفي، عن مقاربات بقية القوى الكبرى تجاه تونس. فالصين تنظر إليها كموقع بنيوي ثانوي يمكن استثماره عبر مشاريع بنية تحتية محددة، دون إدماج فعلي في سلاسل القيمة أو نقل حقيقي للتكنولوجيا، بينما تراها روسيا ساحة رمزية أكثر منها اقتصادية. ويبقى الغرب الطرف الوحيد الذي يربط قيمة تونس الاقتصادية مباشرة بإعادة هندسة سلاسل الإمداد العالمية، غير أن هذه القيمة تظل معلّقة، غير مفعّلة، وقابلة للتآكل.

السؤال الجوهري الذي تطرحه الوثيقة، وإن لم تصغه بشكل مباشر، هو ما إذا كانت تونس قادرة على الانتقال من كونها موقعا مناسبا إلى “وظيفة ضرورية”. فسلاسل الإمداد لا تبحث عن الجغرافيا وحدها، بل عن القدرة على الإنتاج، والاستقرار التنظيمي، وقابلية التنبؤ. ومن دون رؤية اقتصادية وطنية واضحة، ستظل تونس خيارا احتياطيا في حسابات الآخرين، لا عنصرا لا غنى عنه.

في هذا السياق، لا يكمن هامش الحركة التونسية في تغيير موقعها الجغرافي، بل في إعادة تعريف دورها الاقتصادي. ويتطلب ذلك تحويل العلاقة مع الغرب من منطق الدعم الوقائي إلى منطق الشراكة الإنتاجية، واستثمار الانفتاح الصيني في مجال البنية التحتية كرافعة لا كبديل، وتجنب الانزلاق نحو تحالفات رمزية لا تترجم إلى استثمار أو تشغيل. والأهم من ذلك، يتطلب استعادة الدولة لدورها كمنسق اقتصادي يفتح المجال أمام القطاع الخاص، لا كفاعل منفرد يختزل الاقتصاد في القرار السياسي.

تكشف وثيقة معهد واشنطن، في بعدها الاقتصادي، أن تونس لم تقص من الاستراتيجيات الكبرى، لكنها لم تدرج بعد في قلبها. فهي تقف على العتبة. والدخول لا يتطلب ثورة سياسية، لكنه يحتاج أكثر من إدارة يومية للأزمة. يحتاج إلى قرار واضح، أن تكون تونس جزءا فاعلا من سلاسل الإمداد العالمية، لا مجرد مساحة جغرافية تنتظر أن يختارها الآخرون… أو يتجاوزوها

المشاركة في هذا المقال