Print this page

الشارع كسردية سياسية: رهانات السلطة والمعارضة

خلال الأسابيع القليلة الفارطة انتقل الشارع التونسي

من كونه فضاءً للاحتجاج إلى معيار لميزان القوى، وإلى لغة سياسية قائمة بذاتها، سواء عبر الحشد أو الضبط أو التحييد. تقول بشكل مباشر وصريح إن من يملك القدرة على توظيفه، ستكون له القدرة عاجلا أم آجلا على تحديد مآلات المشهد العام.

طور جديد دخلته البلاد منذ نوفمبر الفارط، وتحديدا منذ يوم 22 منه، تاريخ انتظام مسيرة ضد الظلم، التي أعلنت عن عودة المعارضة التونسية باطيافها وتنوعها إلى الشارع، في صراع على الشرعية، وعلى سردية المرحلة، وهو ما تلقفه محيط السلطة الذي حشد أنصاره لمسيرة تنتظم يوم الغد، في تطور قد تكون أولى انعكاساته الإعلان عن أن الشارع بات ساحة لصراع شرعيات وسرديات أكثر مما هو ساحة تنافس عددي على من حشد أكثر.

هذا الشارع الذي انتقل منذ 2011 من حيز جغرافي للاحتجاج، إلى بنية سياسية قائمة بذاتها، مستفيدا من تحرك الشرعية التي كانت في محطات عديدة محل اختبار باستمرار في الفضاء العام، مما منح الشارع لأكثر من عقد دورا غير معلن وهو العمل كآلية تصحيح قسرية للمسار السياسي حينما يختل.

هنا يصبح الشارع فضاء ومجالا عموميا يعيد تعريف الممكن السياسي، ليتحول من ساحة صراع على السلطة إلى ساحة صراع على المعنى. من خلاله تعاد صياغة ثنائية الشرعية واللاشرعية، وتبنى سرديات الإنقاذ أو التهديد، ويعاد ترتيب موقع الفاعلين السياسيين. في ظل هذا الاشتباك، يكمن جوهر العملية السياسية الراهنة، حيث يدار اليوم صراع بين السلطة وخصومها في الشارع.

فالسيطرة عليه تعني التحكم في سردية الأزمة الراهنة، التي تتخذ عدة عناوين، منها من يمثل الشعب؟ ومن يتحدث باسمه؟ وهو ما يشرح لماذا تراهن السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر على تحييد الشارع أو ضبطه، فيما تراهن المعارضة على إعادة شحنه وتوظيفه كأداة ضغط.

السلطة كشفت في مناسبات عدة عن نظرتها للشارع من زاويتين متلازمتين الأولى أمنية، تعتبر أن أي تجمّع خارج السيطرة قد يفتح الباب لعدم الاستقرار، والثانية سياسية، ترى في الشارع أحد مواطن الخطر على سرديتها التي تقوم على أنها تمثل «الإرادة الشعبية» التي عبّر عنها في 25 جويلية وما لحقها. لذلك تسعى إلى ضبط الفضاء العام.

في المقابل، تراهن المعارضة على الشارع باعتباره آخر فضاء متاح لإثبات الوجود السياسي، بعد ما تعتبره تضييقا ممنهجا على العمل الحزبي والسياسي، لتقود تحركات احتجاجية نجحت من خلالها في الظهور المشترك، وكشفت تحولا لافتا في منطق التحرك.

بما يشبه القول إن اللجوء إلى الشارع لم يعد مجرد رد فعل ظرفي، بل محاولة لبناء مشهدية سياسية تقول إن المعارضة، رغم تشتتها وضعف أدواتها، ما زالت قادرة على الحشد، وعلى إنتاج صورة جماعية مضادة لصورة السلطة. هذه التظاهرات أهم دلالتها أن الشارع بصفته فضاءً ومجالا لم يعد محايدا ولا تقنيا، بل بات آلية لإعادة ترتيب موازين القوة وسحب الغطاء الرمزي عن السلطة.

وهذا ما يفسر حالة الاستنفار في محيط أنصار السلطة، وحرصهم على التنسيق لضمان نجاح مساعي تعبئتها الجماهيرية لضمان نجاح تحرك 17 ديسمبر الجاري، أي تحرك يوم الغد. والهدف هنا ليس فقط استعراضا سياسيا لشعبية السلطة، بل محاولة لإعادة ضبط الفضاء العام وكسر منطق العدوى الاحتجاجية.

إذ يبدو أن أنصار السلطة ومحيطها لا يتعاملون مع كل تحرك على حدة، والقصد هنا ليس فقط تحركات المعارضة بل الاحتجاجات الشعبية، فكلها من وجهة نظر أنصار السلطة تقع في فضاء/مجال عام ينظرون إليه كوحدة مترابطة، أي تحرك فيها قد يتحول إلى ديناميكية أوسع يصعب التحكم فيها.

هذا التصور الحاضر بقوة في أذهان رموز أنصار السلطة ومحيطها يكشف أن الشارع بات يمثل خطرا، لأنه في طور التهيئة ليكون «بنية تعبئة» أكثر منه مجرد تجمع، ولا يمكن هنا الرهان على عامل الزمن، ولا على إنهاك الخصوم. في هذا السياق، يصبح الشارع خطرا يجب تقليصه لا مواجهته سياسيا.

أنصار السلطة لا يسعون هنا إلى استعادة الشارع عبر تحركات مكثفة، بل عبر تحرك تعبوي وحيد يقود إلى تحييده، بما يحد من قدرته على التحول إلى قوة ضغط فعلية. على عكس المعارضة التي يبدو أنها تراهن على أن الشارع قادر على كسر العزلة المفروضة عليها داخليا.

فكل صورة احتجاج تتحول إلى مادة سياسية يمكن استثمارها في بناء سردية السلطة في مواجهة المجتمع، مما يكشف اليوم أن الصراع على الشارع هو صراع على تعريف السياسة نفسها في ظل أزمة بين الحاكم والمحكوم

المشاركة في هذا المقال