Print this page

الاقتصاد بين التشخيص والسياسات العمومية: البنك المركزي يكشف عن أسباب الجمود

قدّم محافظ البنك المركزي التونسي في الفترة الأخيرة

قراءة دقيقة للوضع الاقتصادي في البلاد، قراءة انطلقت من المعطيات الرسمية وابتعدت عن التوصيفات العامة. فقد استند خطابه إلى أرقام واضحة تبرز تراجع نسق الاستثمار الذي ادى الى ان يدخل الاقتصاد التونسي مرحلة تباطؤ، تتميز بنموّ محدود و ضغط متواصل على المالية العمومية، وهذا برز في كلمات المحافظ التي وان اقتصرت على الكشف عن تراجع نسق الاستثمار الا انها قدمت بشكل غير مباشر وصريح وضع الاقتصاد التونسي وحلقة التباطؤ التي بات فيها في ظل تعطل اهم محركاته لانتاج الثروة وفرص الشغل وهو الاستثمار.

فمن بين أهم المؤشرات التي كشف عنها المحافظ في كلمة بمناسبة اختتام أشغال الدورة 39 لأيّام المؤسّسة، يبرز معدل الاستثمار الوطني الذي لا يتجاوز 16 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وهي نسبة تبقى دون الحدّ الأدنى المطلوب لدعم نموّ مستدام، خاصة إذا ما قورنت بالمعدل العالمي الذي يتراوح بين 20 و25 ٪، أو بمستويات أعلى بكثير في الاقتصادات الصاعدة والتي تسجل نسبة 30 ٪ واكثر.

ولا تقتصر الصورة التي رسمها المحافظ على ضعف نسبة الاستثمار في البلاد بل بل تمتد إلى تركيبته، إذ لا يمثل الاستثمار الخاص سوى نحو 58 في المائة من إجمالي الاستثمار، وهو ما يعكس حالة تردّد واضحة لدى الفاعلين الاقتصاديين، وتراجع دور القطاع الخاص كمحرّك للنمو مما يعني مزيد من التعويل على دور الدولة ومساهمتها في دفع النمو، في مفارقة تجلى في حجم نفقات الاستثمار العمومي الذي سجل متوسط خلال السنوات العشر الفارط لا يتجاوز 4 مليارات.

هذه المؤشرات مجتمعة تكشف عن مناخ اقتصادي ابرز سماته انه لا يشجّع على الالتزام طويل الأمد ولا يوفّر رؤية واضحة للمستثمرين، فالوضع العام في تونس يتّسم بدرجة عالية من عدم اليقين بالنسبة للفاعلين في الاقتصاد، واسباب هذا التصور عديدة، ولكن نتائجها واحدة، وهي ان الشعور بعدم اليقين في المستقبل ينعكس مباشرة على سلوك المستثمرين وعلى طبيعة قراراتهم.

فالصورة التي تتشكل اليوم عو الوضع العام التونسي يمكن اختزالها عناصر تمس بشكل مباشر الاقصتاد والاستثمار، وهي غياب رؤية مستقرة للسياسات العمومية، وتكرار التعديلات الجبائية، وضبابية الأفق المالي للدولة، هذه العوامل تدفع الفاعلين الاقتصاديين إلى الغاء او تأجيل قرارات الاستثمار أو حصرها في نطاق ضيّق.

ففي مثل السياق التونسي الراهن، يصبح الاستثمار طويل الأمد مخاطرة غير محسوبة، لتقاطع العوامل الثالثة السابقة، وهذا ما قد يفسر لماذا يميل المستثمرون إلى الاكتفاء بإدارة استثماراتهم الحالية والمحافظة عليها في الحدّ الأدنى من التوازنات، بدل التوجّه نحو التوسّع أو استثمارات منتجة جديدة، ما يكرّس حلقة مفرغة من ضعف الاستثمار وتباطؤ النمو.

في ظل هذا الوضع هناك وصف يمكن اعتماده، وهو إن القطاع الخاص بات في وضع دفاعي. فالمؤسسات تفضّل اليوم الحفاظ على مواقعها القائمة بدل التوسّع، مما يشرح ضعف ثقتها في الأفق الاقتصادي، دون ان يعنى ذلك ان جميع المستثمرين في القطاع الخاص المحليين او الاجانب لا ثقة لهم. لكن الارقام تبين ان هناك حالة سائدة لدى المستثمرين وهي ضعف ثقتهم التي أنتجت مع عناصر اخرى الحلقة المغلقة الراهنة والتي يعيش الاقتصاد التونسي على وقعها منذ سنوات، ولعل اكثر ما يعبّر عنها بدقة هو احد اهم المؤشرات التي قدّمها محافظ البنك المركزي، والمتعلّق بهيكلة التمويل، القروض المسندة من المؤسسات البنكية والمالية في الفترة الممتدة من 2022 الى 2024.

فالمعطيات البنكية تُظهر أن القروض قصيرة الأجل تواصل النمو بوتيرة أعلى بكثير من القروض المتوسطة والطويلة الأجل. فقد سجّلت القروض قصيرة الأجل نموًا في حدود 8.1 ٪، مقابل 3.3 ٪ فقط للقروض المتوسطة والطويلة الأجل. هذا الاختلال لا يمكن اختزاله في كونه خيار تقني لجأت اليه البنوك ظرفيا، بل هو يعبّر عن توجّه عام لمنظومة التمويل التونسية نحو تلبية الحاجيات الآنية للمؤسسات والدولة بالاساس، على حساب تمويل المشاريع الاستثمارية القادرة على رفع الإنتاجية وتحسين القدرة التنافسية. وهو ما وصفه محافظ البنك المركزي بوضوح باعتباره تضحية بالمشاريع المنتجة لفائدة تمويل الاحتياجات المباشرة.

هذا الواقع يمثّل، في نظر المحافظ، جوهر الإشكال القائم، والمتمثل في اللاحركة التي أصبحت سمة أساسية للاقتصاد التونسي. فضعف الاستثمار لا يظلّ دون كلفة، بل يؤدي تدريجيًا إلى تآكل القاعدة الإنتاجية، وتراجع فرص النمو، وتثبيت البطالة في مستويات مرتفعة تقارب 15 ٪، لتتحوّل من وضع ظرفي إلى ظاهرة هيكلية.

هنا قد يكون الانطباع الاول عن كلمة المحافظ انها تمثل تشخيص وتقييم رسمي، تشراك فيه اهم مؤسسة نقدية في البلاد، وهذا قد يقود الى الاعتقاد بان هذا التشخيص سيقود بقية المؤسسات الرسمية للدولة التونسية الى وضع سياسات عمومية تعالج مكامن الخلل والضعف، لكن هنا يبرز تناقض الواضح بين هذا التشخيص وبين السياسيات العمومية التي تضمنها قانون المالية لسنة 2025 المصادق عليه والصادر بالرائد الرسمي نهاية الاسبوع الفارط. فقانون لا يتضمن اية إجراءات ملموسة لمعالجة ضعف الاستثمار المنتج، ولا يقدّم حوافز حقيقية لتشجيع التمويل طويل الأمد، كما لا يخفّف العبء الجبائي عن المؤسسات التي تستثمر وتخلق القيمة المضافة. وهذا معلوم لكل من تابع نقاشات المصادقة التي لم تكتفي بالاشارة هذه الهنات بل الى انتقدت الهاجس الرئيسي للحكومة في صياغتها للقانون وللميزانية الذي كان بالأساس تعبئة موارد مالية آنية لسدّ العجز المالي، الذي يناهز في تقديراته الأخيرة 6 في المائة من الناتج الداخلي الخام، على حساب كل شيء، هذا الخيار قد يبدو مبرّرا في الوضع الراهن ولكن ذلك على المدى القصير، ولكن جل القوانين المالية في السنوات الاخيرة اعتمدت ذات المقاربة وهذا ما من شأنه ان يعمّق الاختلالات على المدى المتوسط. وهذا ما نحن إزاءه اليوم.

اذ ان اختلال هيكلة التمويل يبدو انه نتاج لخيارات سياسة رفع حجم الاقتراض من السوق المالية المحلية لتعبئة الموارد المالية للدولة، وهو ما أنتج واقع ابرز سماته ان النظام البنكي المحلي هو المستفيد الرئيس، باعتباره المقرض الأكبر للدولة وهو ما يمنحها راحة نسبية وأمانا في العوائد، مقارنة بالمخاطرة المرتبطة بالاستثمار في المشاريع الإنتاجية.

هذا الخيار وفي ظل غياب السياسات عمومية تشجع البنوك على تمويل الاستثمارات، هو بمثابة تشجيع للبنوك على توجيه تمويلها نحو الأنشطة الأقل مخاطرة، وإقراض الدولة هو النشاط الأبرز، على حساب تمويل المشاريع الاستثمارية والمبادرات الإنتاجية. بعبارة أخرى، انتهجت الدولة سياسة مالية واضحة في أثرها السلبي، تشجع على تمويل الدولة ومؤسساتها، حتى وإن لم يكن لذلك أي أثر ملموس على إنتاجية الاقتصاد، بينما يبقى الاستثمار الحقيقي محرومًا من التمويل الكافي.

ما يتضح هنا وعبر كلمات المحافظ ان تونس لا تواجه أزمة تشخيص، فالصورة التي قدمت صادرة عن أعلى هرم المنظومة النقدية في تونس. وهو ما يعنى ان الاشكال الحقيقي يكمن في الفجوة بين التشخيص ورسم السياسات العمومية. وهو ما يضعنا امام فرضتين، اما الاستمرار في نفس الخيارات التي انفرزت اقتصاد ضعيف النمو، محدود القدرة على خلق الثروة، وعاجز عن امتصاص البطالة. وأما كسر هذا المسار عبر سياسات عمومية مالية وتمويلية تعالج نقاط الخلل في الاقتصاد التونسي

المشاركة في هذا المقال