Print this page

إعادة تعريف حقوق الإنسان والقيم الكونية: حينما تستخدم السيادة لتبرير الانتقائية

أصدرت وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج

بيانا رسميا بمناسبة الذكرى السابعة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في صيغة احتفالية، بحثت فيه عن إبراز التزام الدولة التونسية بالقيم الكونية للحقوق والحريات، لكن بقراءة متأنية للبيان تتضح صورة مغايرة ينقل فيها النقاش من مجال الحقوق ومقتضياتها العملية داخل البلاد إلى قضايا السيادة والأمن الدولي والمجتمع الإنساني.

هذا الانتقال يكشف استبطان السلطات التونسية لمقولات تنزل مبادئ حقوق الإنسان وكونيتها في إطار «أيديولوجيا الهيمنة» ولا تنظر إليها على كونها حزمة من القيم والتشريعات التي تعكس التزاما قانونيا بحقوق المواطنين وحرياتهم، وهو ما يشرح لماذا نهجت السلطة في البيان إلى أن تعيد تعريف حقوق الإنسان وربطها بشكل مباشر بالسيادة، والانتقائية بين الحقوق الفردية والجماعية.

كان البيان حادا في لغته التي كشفت عما يشبه المناورة السياسية هدفها تخفيف التركيز على الحقوق المدنية والسياسية في البلاد لصالح خطاب أعم وأشمل يقود إلى قراءة سياسية معيّنة وانتقائية، وهذا تجلى في كيفية توظيف المفاهيم في سياق خطاب السيادة والمظالم في العالم دون أي إشارة ولو تلميحا إلى الالتزامات الداخلية التي اختزلت في حقوق اقتصادية واجتماعية.

هنا لابد من التنويه بأن الخلل ليس في تركيز البيان على مفهوم كالسلم الدولي أو ضرورة إصلاح النظام العالمي، ولا في تطرقه إلى القضية الفلسطينية وإبراز ازدواجية التعامل الدولي مع الانتهاكات والجرائم ضد الفلسطينيين، فكل هذا مشروع، لكن الخلل في محاولة تسويق مبادئ حقوق الإنسان الكونية على أنها أداة سياسية للهيمنة إن تعلقت بالشأن الداخلي، لكن يقع توظيفها في انتقاد النظام الدولي والازدواجية الغربية.

وهو ما يكشف عن تأثر السلطات التونسية بالجدل الفكري والسياسي والنقد الموجّه للهيمنة الغربية خاصة في بعدها الليبرالي ومحاولة إخضاع الدول والشعوب بشعارات نشر الديمقراطية والقيم الكونية والحقوق والحريات منذ عقود، وكيف تطور هذا الجدل وانتقل إلى الحقل السياسي حيث وظّف من قبل عدة حكومات، خاصة من دول الجنوب، كأداة إما لرفض هذه القيم باسم الخصوصية الثقافية أو كمبرر للانتقائية أو عدم الالتزام بالقيم والحقوق في الداخل.

هذه المقاربة القائمة على نقد الازدواجية الغربية ونزعتها للهيمنة تنقل منظومة القيم والحقوق الكونية للإنسان من كونها مدخلا لتحقيق مزيد من العدالة وضمان الحقوق والحريات لكل المواطنين، إلى أداة هيمنة غربية يجب الانتباه لها، ولكل من يتبنى مقولاتها الحقوقية محليا باعتبار أن ذلك يندرج في باب السيادة والتصدي لتدخل خارجي.

لكن الإشكال في هذا الطرح أنه لا يقف عند هذه النقطة، بل في المفارقة المتمثلة في إدانة انتقائية القوى الكبرى في تطبيق القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، لكنها في المقابل تمارس هذه الانتقائية في الداخل وتنتهج سياسات تقيّد حرية التعبير والنشاط السياسي ولا تضمن المعايير الدنيا للمساءلة والشفافية، وهو ما يبرز بوضوح في خطاب التوظيف الانتقائي، حيث يتحول فيه تبني الحقوق ودعمها إلى خطاب موجّه أساسا ضد قوى خارجية لا كونه مساءلة داخلية حقيقية.

كما تبرز الانتقائية في التركيز على بعد واحد، كالجانب الاقتصادي والاجتماعي، على حساب الحريات العامة والفردية (الحريات المدنية والسياسية) التي تشكّل جوهر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وروحه التي تفترض التزامات عملية مثل احترام حق المحاكمة العادلة، ضمان استقلال القضاء، ضمان حرية التعبير وحماية الصحافة… إلخ. وهو ما يظهر بوضوح في نهج جزء من حكومات الجنوب في التعاطي مع منظومة وقيم حقوق الإنسان باعتبارها خطابا أخلاقيا وموقفا سياسيا في الساحة الدولية وليس إطارا للعيش المشترك والحوكمة الرشيدة والمساءلة الداخلية.

نهج برز في منتصف القرن العشرين تقريبا، مهد له جدل فلسفي وسياسي أخضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لمسائلات سواء عن كونيته المفترضة في إطار سؤال عن كيف يمكن لمنظومة صيغت في سياق تاريخي وثقافي محدد أن تدعي تمثيل الإنسانية جمعاء؟ وهل تمارس هذه الكونية بوصفها قيمة أخلاقية أم أداة سياسية للهيمنة يوظفها الأقوياء ضد الضعفاء؟ والخصوصية الثقافية…

وللنزاهة، لم يكن النقاش والجدل ينطلق من رفض كلي للمبادئ أو إنكارها، بل من محاولة تفكيك بنيتها، وفهم كيف تُصاغ المعايير الأخلاقية حين تتحول إلى قواعد تحكم علاقة دول غير متكافئة القوى. فقد كشفت تحليلات الفكر ما بعد الاستعمار وفلسفات النقد الاجتماعي أن المنظومة الحقوقية الكونية وُلدت في لحظة كان فيها الغرب وحده قادراً على تحويل تجربته إلى معيار.

ومن هنا نشأت قراءات ترى أن الخطاب الحقوقي يحمل، رغم عالميته المعلنة، آثارا لميزان قوى مختل، وأن «الكوني» ليس بالضرورة محايدا، بل قد يكون محمّلا بتمثلات ثقافية وسياسية يتم تصديرها بوصفها نماذج إنسانية مطلقة، لكن المعضلة الأكثر تعقيدا ظهرت حين انتقل هذا النقد المشروع من فضاء التفكيك النظري إلى فضاء الممارسة السياسية.

حيث تبنّته أنظمة سلطوية وجعلت منه ساترا يحجب ممارساتها. ففي العقود السابقة شهد العالم موجة جديدة من الاستبداد، لم تعد فيها الأنظمة السياسية بحاجة إلى خطاب مباشر ينكر الحقوق، بل أصبحت تستند إلى سرديات أكثر مقبولية محلياً سواء سردية الخصوصية الثقافية أو رفض الهيمنة أو السيادة. وهكذا تحول نقد الكونية بوصفه نقاشا فلسفيا حول جذور الحقوق إلى سجال سياسي تستخدمه السلطات حين تريد إخماد مساءلة داخلية أو غضب شعبي أو تقارير دولية تدين سلوكا معينا.

هذه الأنظمة أيضا لا تنكر فكرة حقوق الإنسان صراحة أو تعلن رفضها الكلي، بل تفرغها من محتواها عبر إعادة تعريفها بما يحولها من التزام قانوني إلى فكرة أخلاقية مرنة تفسّر وفق مقتضيات السلطة التي توظف الانتهاكات العالمية كمادة تعبئة سياسية داخلية تستخدم لا لإصلاح المنظومة الدولية، بل لإبطال شرعية كل مطالبة أو ضغط.

إذ باتت الأنظمة السياسية تدرك أن الشرعية في الزمن الحديث لم تعد تستند فقط إلى القوة، بل أيضا إلى السردية التي تسوِّق لها، وهنا يبرز شعار «السيادة» الذي يواجه المطالبة بالشفافية أو المحاسبة أو حرية الصحافة ويعتبرها استقواء بالخارج وفتحا لباب البلاد للتدخل الأجنبي، وهو ما يختزل كل نقد في خانة «الخيانة» أو العمالة للخارج.

كما أن هذه السردية تعيد تشكيل معنى السيادة بحيث لا تكون ضمانا لحماية المواطن من تغوّل الخارج، بل أداة لحماية الدولة من مواطنيها. وهو ما يبرز عبر خطاب وبيانات تحتفي في ظاهرها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعمقه القيمي، لكنها تحول النقاش كليا نحو أزمات العالم وازدواجية القوى الكبرى مع تجنب أي حديث عن مسؤولياتها الداخلية.

وهنا لا يكمن الخطر الحقيقي في نقد كونية حقوق الإنسان، فهذا النقد ضروري كي لا تبقى المنظومة رهينة ميزان القوى أو متأثرة بإرث استعماري لم يصفّ بعد. بل يكمن في أن يتحول هذا النقد من سؤال فلسفي إلى خطاب سلطوي يعاد من خلاله بناء شرعية التسلط باسم مقاومة الهيمنة الغربية

المشاركة في هذا المقال