Print this page

بين الفصل 15 من مشروع قانون المالية والإضراب العام: لحظة مفصلية بين السلطة والاتحاد

يبدو أن المشهد السياسي والاجتماعي في تونس يتحرك

وصلبه تتحرك عناصر الأزمات المتشابكة بوتيرة أسرع مما بدا في الأسابيع الماضية، تفرض على الفاعلين الأساسيين فيه التفاعل مع متغيرات جمة سبقت ومهدت لأهم تطورين خلال الأيام الثلاثة الأخيرة.

بيان الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقدة يومي الجمعة والسبت الفارطين، وهو بيان بلهجة أكثر حدة مما دأب عليه الاتحاد في الأشهر الأخيرة، وتصريحات وزيرة المالية تحت قبة البرلمان لتكشف عن موقف جديد في علاقة بالزيادات في الأجور وهو إمكانية إجراء مفاوضات بشأنها وإن كانت طبيعة التفاوض قد حُددت، تطوران لا يمكن النظر إلى تزامنهما على أنه تزامن عابر. فالمؤشرات المتراكمة توحي بأن البلاد تتجه نحو مرحلة جديدة من العلاقة بين الحكومة والاتحاد، مرحلة قد تكون سمتها الأبرز هو الصراع السياسي ولكن وفق أي منطق ومقاربة وضوابط هذا ما لا يُعرف إلى حد الآن.

فما نحن إزاءه اليوم هو فصل جديد في صراع السلطة والاتحاد والذي اتخذ من أسابيع عدة عنوانًا مركزيًا وهو الفصل 15 من مشروع قانون المالية المتعلق بالزيادات في الأجور، الذي اعتبره الاتحاد ترسيخًا لنهج السلطة الساعي للهيمنة على الفضاء العام وسلب المنظمات دورها الاجتماعي والوطني، ويعزز هذا الشعور الحملة التي أطلقها أنصار السلطة ضده.

قراءة دفعت بالاتحاد إلى التلويح باستعداده لكل الاحتمالات وذلك في التجمع العمالي يوم الخميس الفارط، تجمع وُجهت فيه رسائل عدة من قبل المنظمة للسلطة والحكومة رأسًا يحذرها من مخاطر الذهاب بعيدًا في نهجها ويلوح بورقة الإضراب العام الذي وقع إقراره من قبل الهيئة.

رسائل يبدو أن السلطة تلقفتها، واعتمدت تجزئة الإجابة ونقلها إلى المنظمة وفق هوية المتحدث، فحينما تتحدث الحكومة تلمّح على لسان وزيرة المالية نيتها التفاوض في علاقة بنسب الزيادة في الأجور وذلك في إطار إجابات الوزيرة على أسئلة أعضاء مجلس الأقاليم والجهات في علاقة بالفصل 15، وهنا الإجابة وإن كانت بالأساس لشرح رفض الحكومة لتسقيف الزيادة في الأجور إلا أنها حملت أيضًا تصريحًا مقتضبًا بأن هذه النسب تحددها المفاوضات وستصدر في شكل أمر رئاسي، وهو ما قد يُفهم منه أنها وإن لم يكن إعلانًا عن الاستعداد لتفاوض واسع فإنه بالأساس رسم لأطر المفاوضات المحتملة.

فالحكومة تترك الملف مفتوحًا من حيث الشكل، لكنها تُفرغه من مضمونه عبر ربط الزيادة بقدرة كل قطاع ومؤسسة، أي تفكيك الملف إلى أجزاء صغيرة تُدار في مسارات منفصلة، بعيدًا عن اتفاق اجتماعي شامل كان الاتحاد يطالب به باستمرار. تعتبر أن هذه المقاربة يمكنها أن تقدم للاتحاد ما كان يطالب به وهو التفاوض والحوار الاجتماعي وإن قد أُفرغ من معناه ومضمونه وخاصة تجزئته.

في المقابل، كان بيان الهيئة الإدارية للاتحاد بمضامين تتجاوز البعد الاجتماعي. فالبيان لم يكتفِ بانتقاد الفصل أو الآليات المتبعة، بل انتقل إلى الحديث عن «خيارات اقتصادية مجحفة» و«تهميش المنظمات الوطنية» و«ضرب الحقوق الاجتماعية». هذه العبارات ذات الدلالات السياسية يعلن بها الاتحاد أنه استشعر حالة الخطر التي باتت تتهدده وليس تلميحات التفاوض والتهدئة. فما يعلنه الاتحاد ببيان الهيئة هو تحوّل في قراءة المرحلة وطبيعتها. فهو لم يعد يعتبر نفسه أمام خلاف تقني حول نسبة زيادة أو صيغة تفاوض، بل أمام مسار ترى القيادة النقابية أنه يستهدف دورها وموقعها من قبل منظومة استبداد منغلقة.

هذا الخطاب الحاد والتداخل بين الاجتماعي والسياسي ليس جديدًا في علاقة الحكومة بالاتحاد، لكنه اليوم أكثر وضوحًا وأشد. فالاتحاد لا يرى خيار السلطة في مسألة الأجور مجرد خيار فرضه ظرف مالي صعب دفع الحكومة إلى فرض مقاربتها دون البحث عن اتفاقات واسعة، بل يراه طمسًا لدور الاتحاد ومحاولة تثبيت نموذج جديد للحوار الاجتماعي يقوم على تحديد الدولة للأولويات وحدها، ثم دعوة باقي الأطراف للتفاعل معها على قاعدة الالتزام والتطبيق. والاتحاد يرى في ذلك محاولة لتقليص وزنه التاريخي وإضعاف قدرته على التأثير في السياسات العامة، وهو ما يفسر حدة لهجة بيانه الأخيرة وإعلان هيئته الإدارية عن موعد الإضراب العام بتاريخ 21 جانفي القادم.

خطوة يعلن بها الاتحاد أنه بدوره منفتح على الحوار ولكن ليس بالشروط التي ترسمها الحكومة، وهو ما قد يعمّق التوتر الراهن بين الطرفين وينتقل به إلى صراع سياسي، فما هو جلي من مضمون الرسائل التي وجهها الجانبان أنها لا تلتقي في نقطة وسط. فالحكومة تتحدث عن «إمكانية التفاوض» لكنها تربطها بإجراءات لاحقة وبقدرات مالية محدودة، والاتحاد يقرأ ذلك كإعلان مسبق عن نية لترسيخ مقاربة جديدة تقصيه. وهذا ما يدفعه إلى التلويح بأن معركته القادمة لن تكون اجتماعية فقط، بل قد تشمل الدفاع عن دوره السياسي-الاجتماعي في البلاد.

وهو ما يعني أن البلاد قد تكون على أعتاب صراع سياسي سيهيمن على المرحلة المقبلة لكنها لا تعلم بعد ما هي ضوابط هذا الصراع وحدوده، فهذا مرتهن لما تؤول إليه التطورات القادمة، وهنا الفرضيات محدودة، أولها إمكانية دخول الطرفين في مفاوضات محدودة تهم بعض القطاعات أو الملفات وذلك لتخفيف التوتر بما يسمح بتأجيل الإضراب العام وإن لم يقع الوصول إلى اتفاق شامل. وإن تم هذا فقد يمنح الحكومة والاتحاد فرصة لتأجيل الصراع لا حله، ولكن هذا سيعتمد على قدرة الطرفين على ضبط درجة الخطاب وتقدير كل طرف لكلفة الصدام.

الفرضية الثانية هي فشل جهود تهدئة الأزمة وتعثر محاولات الوساطة في تنقية المناخ في ظل حملة شرسة على الاتحاد يقودها أنصار السلطة تطالب بالمحاسبة لا بالتوافق، وهذا قد يكون عنصر توتير للعلاقات خاصة وأن فقدت السلطة قدرتها على ضبط الخطاب وتبنت نهج التصعيد الذي من شأنه أن يدفع بالمواجهة لتأخذ طابعا سياسيا.

فالاتحاد قد يلجأ إلى تعبئة قواعده تدريجيا، ويستعمل أدوات الضغط المعتادة من بينها إضرابه العام لقراءة المشهد والتوجهات العامة التي قد تشجعه على الذهاب إلى إعلان موقف سياسي شامل من منظومة الحكم برمتها لا فقط من كيفية إدارة الملفات الاجتماعية.

ما يجعل هذا أقرب للواقع هو تفاصيل المشهد العام في البلاد الذي يشهد تغيرات متسارعة. لكن مقابل ذلك تتحرك السلطة التنفيذية بثقة أكبر في علاقة بقدرتها على فرض خياراتها، وإدراكها أن هذا الصراع سيرسخ موازين القوى الجديدة لفائدتها.

بهذا المعنى، يبدو أن الصراع القادم لن يكون حول نسبة زيادة في الأجور، بل حول من يحدد الإيقاع العام للمرحلة المقبلة. السلطة تسعى لتثبيت نموذج حكم يقوم على القرار المركزي المنفرد، والاتحاد يريد الحفاظ على الدور الذي لعبه طيلة العقود الماضية كفاعل أساسي في ضبط السياسات العامة. وبين الموقفين، تقف البلاد أمام مرحلة تتطلب حوارا واسعا وقدرة على إدارة الخلاف دون دفع الوضع نحو مواجهة مفتوحة.

والأسابيع القادمة ستكون هي المحددة، فإما أن تتجه البلاد والفاعلون فيها إلى إعادة بناء قواعد تفاوض جديدة، وإما أن تدخل البلاد مرحلة صراع سياسي-اجتماعي يعيد رسم العلاقة بين الفاعلين داخل الدولة وخارجها. وفي الحالتين، المؤكد أن المشهد لم يعد ثابتًا، وأن كل المؤشرات تدل على أننا أمام بداية مسار جديد لم تتضح ملامحه النهائية بعد

 

المشاركة في هذا المقال