Print this page

من ضريح حشاد الاتحاد يثبت حضوره: في انتظار قرارات الهيئة الإدارية

أمام ضريح فرحات حشاد تجمع أنصار

الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظوروه لإحياء الذكرى السنوية الـ73 لاغتياله. ولكن هذا التجمع تجاوز يوم أمس كونه وقفة رمزية، ليكون مناسبة جديدة يعلن فيها الاتحاد عن انه وان لم يتخذ قرار بالصدام والتصعيد لمجابهة سياسة السلطة ونزوعها لغلق كل سبل الحوار، فانه في المقابل يتهيئ لكل الامكانيات ويدرس اليوم خيارات تتجاوز دوره النقابي.

فعلى لسان أمينه العام نور الدين الطبوبي، كشف الاتحاد عن قراءته لما تمر به البلاد من أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية حمّل مسؤوليتها للسلطة التي باتت ترفض الحوار وتمضي في مسار غلق الفضاء العام وضرب كل الحريات وترسيخ نهج أحادي في إدارة الملفات الكبرى، وقدم مثال لذلك اقرار الزيادة في الاجور عبر فصل في مشروع قانون المالية دون مفاوضات اجتماعية.

نور الدين الطبوبي اختار يوم أمس أن تنطلق كلمته عقب التحرك الاحتجاجي بتشخيص مباشر للأوضاع، الذي ارتكز على أن الوضع الاجتماعي يزداد سوءا خاصة على الفئات الضعيفة والمتوسطة. وهو توصيف ليس بالجديد في خطاب الاتحاد، لكنه اليوم جاء بصوت أكثر هدوءا عما كان عليه من قبل، وكان الاتحاد، الذي يؤكد عمق الأزمة، يرغب في تجنب الانزلاق إلى التصعيد والخطاب التعبوي المباشر.

هذا التوجه الذي مضى فيه الاتحاد يبدو أنه ما دفع به إلى جعل التجمع النقابي على غير عادته، المتمثلة في رفع السقف سواء بكلمة الأمين العام أو في الشعارات، إذ إن كل هذا غاب يوم أمس، ولعل دافعه البحث عن ترك باب مفتوح لإمكانية الوصول إلى اتفاق مع السلطة بموجبه يستأنف الحوار الاجتماعي، الذي يشدد الطبوبي على أن شروطه لم تعد متوفرة بنفس الدرجة التي كانت عليها في السابق. فقد اعتبر أن الحكومة تتخذ قرارات أساسية دون العودة إلى طاولة التفاوض.

مقال بهذا التوجه الحكومي يستعمل الطبوبي عبارة «كل الاحتمالات واردة»، التي كان واضحا من استعمالها أنه لا يريد إعلان أي خطوة تصعيدية محددة في هذا التوقيت. وإن كانت العبارة في حد ذاتها ليست جديدة في معجم الاتحاد، لكنها هذه المرة جاءت ضمن سياق محسوب، يهدف إلى ترك الباب مفتوحا من دون الالتزام بمسار معين. وهذا يعكس أن التجمع كان بالأساس مناسبة لعرض موقف الاتحاد، لا لإطلاق مسار تصعيدي مباشرة من موقع الرمز التاريخي الذي يمثله ضريح فرحات حشاد.

غير أن الرسالة الأهم في خطاب الطبوبي لم تكن مرتبطة بما قيل بصراحة، بل بما تمّ التلميح إليه. فقد كان واضحا أنه لا يريد أن يفهم التجمع باعتباره محطة لاتخاذ قرارات أو خطوات عملية، بل أراد التأكيد على أن الاتحاد يعتمد على مؤسساته الداخلية في اتخاذ القرارات، وأن الهيئة الإدارية الوطنية هي الجهة المخوّلة لرسم التحركات القادمة. هذا التفريق بين ما يُقال في الشارع وما يقرر داخليا هو جزء من منهجية عمل الاتحاد التي تعتمد على الفصل بين التعبئة وبين القرار. فالتحرك الجماهيري يستخدم لتثبيت موقف أو تقييم المزاج العام، لكن القرار الحقيقي يصاغ بعيدا عن الانفعال، داخل هياكل الاتحاد.

هذا التوجه كان ملموسا في كل تفاصيل الخطاب. فقد حافظ الطبوبي على نبرة هادئة، وحرص على إرسال إشارات مدروسة مفادها أن الاتحاد لن يتسرع في إعلان مسار احتجاجي، حتى إن كانت الظروف الحالية قابلة للقراءة كمرحلة تسبق التصعيد. وبهذا، كان التجمع يوم أمس خطوة موازية، لا خطوة فاصلة، خطوة تهدف إلى إثبات أن الاتحاد موجود في الساحة وله قدرة على التعبئة، ولكنه لن يحدد شكله القادم قبل اجتماع الهيئة الإدارية.

اجتماع يتضمن جدول أعماله عدة نقاط، سواء إقرار الإضراب العام أو تقدير لطبيعة المرحلة الراهنة في علاقة بالحريات النقابية وما يستوجب القيام به من قبل المنظمة التي ستناقش إمكانيات العمل المشترك مع منظمات وطنية أخرى. وهو ما تضمنته كلمة الطبوبي، والتي وإن لم يعلن مباشرة عن أي مبادرة مشتركة، إلا أنه أوضح أن تجاوز الأزمة يتطلب مقاربة جماعية لا يمكن للاتحاد وحده أن يتحمل مسؤوليتها. هذا القول، وإن كان عاما، إلا أنه يعكس وجود توجه داخل المنظمة يدفع إلى استعادة دوره في المشهد الوطني، وهو لعب دور قاطرة لمنظمات المجتمع المدني في مسار صياغة تصور شامل للمرحلة القادمة.

وهذا يكشف وعيا قد تترجمه الهيئة الإدارية وقراراتها بأن الأزمة لم تعد مسألة اجتماعية فقط، بل لها امتدادات سياسية واضحة، وأن معالجة هذه الأزمة في بعدها الشامل يتطلب جبهة واسعة تتقاسم الأهداف وتنسّق خطواتها. وهذه المقاربة تعيد للاتحاد دورا كان قد تراجع في السنوات الماضية، أي دوره كفاعل وطني جامع، وليس مجرد طرف اجتماعي يتفاوض من أجل مكاسب للشغالين.

لهذا، يمكن القول إن الرسالة التي قدمها الاتحاد في تجمع يوم الخميس الفارط هي أنه وإن كان يعتبر أن الوضع خطير، وأن السياسات الحالية تعمق الأزمة، فإنه في المقابل يفضّل التريث ليمنح السلطة منفذًا لتجنب أي تصعيد قد يقع إقراره من قبل مؤسساته وعلى رأسها الهيئة الإدارية التي ستحدد طبيعة تحركات الاتحاد القادمة، ومنها تحديد شكل التعاون مع منظمات وطنية للتعامل مع الأزمة في شقّيها الاجتماعي والسياسي.

وفي المحصلة، قدّم الاتحاد يوم أمس موقفا متوازنا، نبرة عالية في التشخيص، وحذرا في القرار، واستعدادا للانفتاح على شركاء آخرين. وهذا يعكس أن المعركة، إن حصلت، لن تكون معركة ارتجالية أو فردية، بل مسارا يحدده التقدير الداخلي ويستند إلى توافقات وطنية أوسع

المشاركة في هذا المقال