Print this page

إضراب الأطباء الشبان: لحظة سياسية تكشف حدود إدارة التعهّدات

يوم أمس شاهدنا كيف يتحوّل إضراب مهني في

قطاع الصحة إلى حدث سياسي وطني، يُسائل الدولة مباشرة عن مدى التزامها بتعهداتها ومواثيقها، وهذا ما قامت به المطالب المرفوعة، والتي للمفارقة كرّرت ذات المطالب القديمة التي وقع الاتفاق بشأنها في 3 جويلية الفارط، وهو ما كشف عن حدود قدرة السلطة على الوفاء بتعهداتها.

هذا بالضبط ما مثّله تحرّك الأطباء الشبان يوم أمس 19، وهذه هي أهمية التحرك التي لم يستمدّ من حجمه أو من رمزية الشباب في القطاع الصحي، أهمية التحرك أنه يضع الدولة أمام التزاماتها التي كانت واضحة ومكتوبة، إذ تضمّن اتفاق 3 جويلية 2025 الذي وُقّع بحضور وزارة الصحة ورئاسة الحكومة تسوية الوضعيات المهنية للأطباء الشبان، وتمتيعهم بالتغطية الاجتماعية، وصرف المنح المتفق عليها وفي مقدمتها منحة العمل في المناطق الداخلية، إضافة إلى تحسين ظروف التكوين والإقامة بالمستشفيات الجامعية. ومع ذلك بقي الاتفاق معلّقًا بلا تنفيذ رغم تعهّد الحكومة بإكمال تفعيله قبل نهاية أكتوبر الفارط، وهو ما جعل الإضراب يكشف منذ انطلاقه هشاشة العلاقة بين الدولة وشركائها في الفضاء الاجتماعي.

هشاشة لا تقتصر على المجال المهني فقط، بل تمتد إلى الفضاء السياسي وتفرض طرح سؤال عن معنى الحكم نفسه، إذ كيف يمكن لسلطة ما أن تتفاوض وتوقّع وتعلن التزاماتها أمام الرأي العام، ثم تتأخر في الإيفاء بهذه الالتزامات، وأن تحافظ على رصيد الثقة فيها؟ وهو رصيد مهم لإدارة الفضاء العام، إن تآكل تآكلت معه مشروعية الدولة.

الأزمة هنا ليست في تأخير التسويات المهنية أو إرجاء صرف المنح وعدم توفير التغطية الاجتماعية، التي يمكن للسلطة أن تحيل أسبابها إلى بطء الزمن الإداري وثقَل الإجراءات البيروقراطية، الأزمة في كيفية إدارة التفاوض قبل وبعد الاتفاق وفي عدم بحث السلطة عن حماية المسار التفاوضي وتأمينه من أن يكرر النهج السابق في إدارة الأزمات الاجتماعية بتأجيلها وجعل هذا نموذج حكم وقاعدة لتسيير الفضاء العام.

الإشكال هنا، ووفق ما عبّر عنه تحرك الأطباء الشبان ومطالبهم المرفوعة، هو أن الحكومة التي فاوضت لأسابيع اتفقت معهم على تحقيق جملة من المطالب التي قد تتجاوز إمكانياتها وقد لا تملك آليات تنفيذها، وهذا ما قد يُؤول على أنه إقرار من الحكومة بشكل غير مباشر على أنها تراهن على الوقت وعلى إنهاك الطرف المقابل أكثر مما تراهن على الحلول.

بهذا المعنى، يصبح توقيع الاتفاق حدثًا عابرًا، بينما يتحوّل تنفيذُه — سواء تعلّق الأمر بالمنح أو التغطية الاجتماعية أو ظروف الإقامة والتكوين — إلى خطوة قابلة للتأجيل والمراجعة وإعادة التأويل. وهو ما يعيد طرح مسألة مصداقية الدولة وقدرتها على إدارة ملفاتها. فعندما تُوقّع الحكومة على التزامات واضحة ثم لا تحترم ما وقّعت عليه، فإنها لا تُضعف فقط صورتها تجاه الطرف النقابي، بل تجاه كل المتعاملين معها.

وإضراب الأطباء الشبان يكشف، مرة أخرى، عن تفاقم هشاشة العقد الاجتماعي في قطاع الصحة. فالأزمة المستمرة التي تعاني منها المستشفيات — من نقص التجهيزات، وصعوبة ظروف التكوين، وتدهور البنية الأساسية، وتزايد هجرة الكفاءات — ليست مجرد انعكاس لمحدودية الموارد، بل أيضًا نتيجة لتعمّق أزمة الثقة بين العاملين في القطاع وبين السلطة.

فالحكومة التي تدعو الأطباء إلى البقاء في البلاد وإلى التضحية من أجل المرفق العمومي، لا تستطيع في المقابل أن تقع في فخ تناقض الخطاب الرسمي والسياسات المنتهجة، والأهم لا يُقبل منها أن تتراجع عن التزاماتها أو تتجاهلها. فهذا التناقض بين الخطاب والممارسة هو ما يجعل تحرّك الأطباء الشبان يتجاوز حدود المطالب المهنية ليدخل في صميم المشروعية السياسية للدولة.

فالأزمة التي نحن أمامها اليوم ليست أزمة بين الحكومة والأطباء الشبان، بل أزمة مصداقية قد تُخلّف تداعيات كبرى على قدرة الدولة التفاوضية في باقي القطاعات. فعندما يتبيّن للأطراف الاجتماعية أنّ الاتفاقات — سواء في الصحة أو التعليم أو النقل — لا تُنفّذ، وأن الالتزامات قابلة للإرجاء إلى أجل غير مسمّى، فإن أي مفاوضات مستقبلية تصبح فاقدة لثقة الطرف المقابل. وهو ما قد يقود إلى تشدّد أكثر، وضمانات مكتوبة ومرفوقة بآليات تنفيذ دقيقة، وربما باعتراف قانوني بهذه الآليات. وفي بعض الحالات، سيتحوّل منطق التفاوض إلى منطق الضغط المستمرّ، لأن الدولة فقدت ما يكفي من الرصيد السياسي الذي يسمح لها بإقناع الأطراف بأن كلمتها ملزمة.

وهو ما يستوجب عدم اختزال الأزمة في سوء إدارة ظرفية أو في صراعات بين الوزارة والأطباء الشبان. فالأزمة اليوم ترتبط بمنظومة حكم تُدير التعهّدات كأنها أوراق تفاوضية لا كأنها التزامات قانونية وسياسية. وحين تصبح الدولة هي الطرف الذي يُؤجّل ويُماطل وينقض ما تُوقّعه فإنها تتنازل تدريجيًا عن جزء من شرعيتها ومن قدرتها على لعب دور الحكم في الملفات الاجتماعية. ومن الطبيعي، في مثل هذا السياق، أن تتزايد التحركات الاحتجاجية، وأن تتوسع حالة التململ داخل المهن الحسّاسة التي تقوم عليها المرافق العمومية، وفي مقدمتها الصحة.

الدرس الأساسي الذي يقدمه إضراب الأطباء الشبان هو أنّ احترام الاتفاق ليس مسألة تقنية بل رصيدًا سياسيًا. وهو الحد الأدنى من احترام الدولة لنفسها قبل احترامها لمهنييها. وإذا كانت السلطة تريد الحفاظ على دورها التفاوضي وعلى مكانة الدولة كضامن للحقوق، فإن الطريق يبدأ من احترام ما توقّعه. أمّا استمرار منطق التأجيل، فإنه لا يضرّ فقط الأطباء الشبان ولا يعرّض قطاع الصحة لمزيد من الهشاشة، بل يسحب تدريجيًا من الدولة قدرتها على إدارة المجتمع والتفاعل مع مطالبه، ويزرع الشكّ في كل علاقة تعاقدية تنشأ بينها وبين مواطنيها.

هكذا يصبح تحرّك 19 نوفمبر 2025 أكثر من إضراب، إنه محاولة لإعادة تذكير الدولة بواجباتها، ولإعادة تعريف معنى الالتزام في منظومة تُدرك فيها الحكومة أن الثقة ليست شعارًا، بل شرطًا وجوديًا لقيام أي سياسات عمومية ولقدرة الدولة على الاستمرار كمرجع وحيد في إدارة الشأن العام

المشاركة في هذا المقال