Print this page

جوهر بن مبارك والنضال الديمقراطي

حياة جوهر بن مبارك المثقف والمناضل السياسي والحقوقي في خطر

فبعد إضراب جوع وحشي تجاوز أسبوعه الأول وراء قضبان السجن تدهورت صحته بشكل مريع وسط فزع أبيه المناضل اليساري الكبير عز الدين الحزڤقي ووجع شقيقته المحامية دليلة بن مبارك وكل المحامين الذين زاروه..

جوهر بن مبارك الذي خاض اضرابات جوع سابقة مصمم اليوم أن يخرج حرّا من السجن ولو كلفه ذلك حياته..

هل يمكن لنا ولِمَ تبقى من انسانيتنا أن نقف صامتين أو متشمتين أو حتى متعاطفين دون أن يبذل كل واحد فينا ما أمكنه ومن موقعه كل الجهد لتجنب الكارثة: موت مثقف ومناضل منذ ريعان شبابه (أي منذ حوالي 35 سنة) وراء قضبان السجن والحال أن مطلبه الوحيد هو أن يحاكم محاكمة علنية يحضر فيها بجسده المنهك للدفاع عن نفسه وللرد على التهم التي وجهت إليه وإلى رفاقه فيما يعرف بقضية «التآمر على أمن الدولة»..

نحن لا نتحدث هنا عن الملابسات السياسية العامة ولا مسار التحقيق والسجن ولا حتى عن حقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها.. نتحدث فقط عن حق سجين لا في محاكمة عادلة بل في محاكمة علنية حضورية ليسمح له ولرفاقه المسجونين منذ ما يزيد عن السنتين وثمانية أشهر بالدفاع عن أنفسهم وبمواجهة مكشوفة للتهم التي وجهت له ولهم..

عندما نجيل النظر اليوم في السنوات الخمسة عشر التي عقبت ثورة 14 جانفي ولا سيما في عشرية الانتقال الديمقراطي ندرك اليوم حجم الضرر الذي لحق بشخصيات عدة من المناضلين السياسيين والحقوقيين، تلك الأجيال من المناضلات والمناضلين التي لم تنتظر تحرير الكلمة مع الثورة بل جازفت بحريتها وبمواقعها العلمية والاجتماعية المقبولة من أجل التعبير والنضال تحت سلطة مستبدة رغم كونها كانت مستنيرة في بعض مراحل دولة الاستقلال..

هذا النضال لم يكن ينقل على شاشات التلفزيون الرسمي أو وسائل الإعلام آنذاك إلا ما قل وندر.. ولهذا كان جلّ التونسيات والتونسيين يجهلون تقريبا كل شيء عن النضال السياسي والحقوقي والثقافي والفكري لأجيال من خيرة شبابنا منذ ستينات القرن الماضي إلى نهاية العقد الأول من هذا القرن..

وفجأة ظهرت كل هذه الوجوه، وغيرها كثير ممّن فضّل السلامة الشخصية زمن الاستبداد - وهذا حق لا ينكر على أحد - أو من تسلل إلى هذه الواجهات الجديدة بطرق ليست دوما أخلاقية ومشروعة.

رغم المزايا الكبيرة للانتقال الديمقراطي ولكن الحابل قد اختلط بالنابل وطفت المشهدية للصراع وهيمنت اللحظة الراهنة على الماضي وعقوده الأخيرة فتساوى أمام أعين الناس المناضلين الذين ضحّوا من أجل الديمقراطية أو من أجل مبادئ يعتقدون أنها فاضلة والمثقفين الجديين والنزهاء، مع العديد من المتطفلين والانتهازيين، والنتيجة بعد عشرية من هذا الاختلاط الهجين تساوى الجميع - من الأسفل- في أنظار عموم التونسيين ولحقت بالجميع حكما ومعارضة، سياسيين ونشطاء حقوقيين ومثقفين نعوت الفشل والطمع دون تثبت ولا روية..

سوف يأتي يوم ولا شك تقيّم فيه كل عناصر اخفاق الانتقال الديمقراطي في بلادنا ولِمَ أهدرنا جميعا - بنسب متفاوتة - هذه الفرصة الاستثنائية لتحويل تونس إلى ديمقراطية تحقق الازدهار وتحفظ كرامة وحقوق الأفراد والجماعات وتحد من مختلف أشكال التمييز التي طبعت العقود الأولى لدولة الاستقلال..

جوهر بن مبارك هو أحد هذه الشخصيات داخل الحراك السياسي الديمقراطي الذي انطلق في تونس منذ ستينات القرن الماضي ومن داخل الحزب الحاكم الذي قاد معركة التحرر الوطني فلقد ارتفعت أصوات شجاعة حينها كالمغفور لهما أحمد التليلي الأمين العام السابق لاتحاد الشغل ورسالته الشهيرة إلى الزعيم الحبيب بورقيبة وبعده الاستقالة المدوية لأحمد المستيري من الحكومة ومطالبته معية رفاقه بإصلاحات ديمقراطية داخل الحزب الاشتراكي الدستوري بداية ثم داخل البلاد بأكملها..

وامتدت المطالب الديمقراطية وشملت جلّ نخب البلاد المنحدرة آنذاك (ككل البلاد العربية وجلّ بلدان العالم الثالث) من تيارات شمولية ولكن خلقت تونس مناخا منذ سبعينات القرن الماضي لتلاقح الأفكار ولاقتناع وجوده عديدة من مشارب متناقضة بضرورة التواضع على حدّ أدنى ديمقراطي يضمن الحريات الفردية والعامة والكرامة لجميع المواطنات والمواطنين..

هل يعني هذا أن كل هذه الشخصيات فوق النقد أو المحاسبة إن ثبت وجود تصرفات منافية للقانون ضدّ بعضها؟ طبعا لا، ولكن هل من مبرر مقنع لهذا الصيد بالكركارة اليوم؟

جوهر بن مبارك وبقية السياسيين والحقوقيين والإعلاميين القابعين اليوم وراء القضبان لم يطالبوا باطلاق سراحهم بل فقط بمحاكمات عادلة تحترم حقوق الدفاع وتؤمن بقرينة البراءة.. وطالبوا قبل ذلك بتحقيق منصف ينظر في أدلة الإدانة - إن وجدت- وكذلك وأيضا في أدلة البراءة.. طالبوا بقضاء مستقل لا يخضع لأحد سوى لضمير القضاة أنفسهم ولروح القوانين قبل نصوصها ولاحترام الإجراءات على شكلانيتها أحيانا..

ففي هذا الاحترام العميق والدقيق للإجراءات ضمان لحقوق الفرد والمجتمع ضدّ أي تغوّل ممكن لأصحاب النفوذ والسلطة..

كيف يمكن أن يقتنع بعضهم اليوم أن وضع العشرات من السياسيين والحقوقيين والنقابيين والإعلاميين وراء القضبان بتهم فضفاضة هو أمر جيد للبلاد؟ وأنه هو عين المحاسبة والعدالة؟!

على كل هنالك اليوم مسألة مصيرية وهي انقاذ حياة جوهر بن مبارك وهذه مسؤولية أجهزة الدولة الواقع عليها قانونا وأخلاقا حماية كل المساجين من أي ضرر قد يلحق بأحدهم..

ولكن قضية جوهر بن مبارك أكبر من هذا.. إنها قضية الاعتراف بحق المختلف في الوجود وفي المشاركة وقضية قواعد العيش المشترك ومن أهمها القواعد الأخلاقية والقيمية..

ولكن ينبغي اليوم انقاذ حياة جوهر بن مبارك وبعد ذلك لكل حادث حديث

المشاركة في هذا المقال