Print this page

مشروع ميزانية 2026: الدولة تدير أزمتها الاجتماعية بالانتدابات

كشف تقرير مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026

عن توجّه الحكومة إلى إحداث 51 ألف خطة عمل جديدة في الوظيفة العمومية، سواء عبر الانتداب المباشر أو من خلال تسوية الوضعيات.

هذه المعطيات، التي تُقدَّم ضمن ما يُعتبر مؤشرات إيجابية، مثل التحكم في كتلة الأجور وتقليص نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي بـ0.1 نقطة لتبلغ 13.3%، لا تمثل في الحقيقة سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد.

فخلف هذا التقليص النسبي يبرز المشهد الأعمق: كتلة الأجور ارتفعت فعليًا بنحو 878 مليون دينار، أي بزيادة قدرها 3.6 % مقارنة بسنة 2025، لتبلغ 25.267 مليار دينار.

ووفق التقرير ذاته، تمثل هذه الكتلة 40.8% من نفقات الدولة، وهنا تتجلى المفارقة: الدولة التي تسعى للتحكم في كتلة أجورها تختار في الوقت ذاته توسيع جهازها الإداري والتنفيذي ليضمّ أكثر من 720 ألف موظف وعامل.

فالتقرير يُظهر بوضوح توجّه الحكومة إلى انتداب قرابة 40 ألف موظف وأجير جديد للالتحاق بالوظيفة العمومية، إضافة إلى تسوية وضعية حوالي 13 ألف من عمال الحضائر.

وبذلك، يبلغ العدد الجملي لمواطن الشغل التي ستُحدثها الحكومة 51,878 خطة، أي أن الجهاز العمومي سينمو بنسبة 7.6 %، وهي النسبة الأعلى خلال العقود الثلاثة الماضية.

هذه الأرقام تكشف عن سياسة تشغيل اجتماعية تنتهجها الدولة في سياق مالي واقتصادي معقّد وهشّ، وتؤكد أن الأولوية اليوم في السياسات العمومية هي البحث عن السلم الاجتماعي بأي ثمن، حتى وإن كان ذلك بجعل الوظيفة العمومية أداة توازن اجتماعي بدل أن تكون وسيلة لضمان حسن تسيير الدولة والاقتصاد.

بهذا، تُرجّح الحكومة كفة خفض التوتر الاجتماعي على كفة الإصلاح الاقتصادي.

ورغم أن هذا الخيار يُقدَّم في أدبيات السلطة بوصفه تجسيدًا للبعد الاجتماعي للدولة وحرصًا على ما يمكن اعتباره «عدلاً رمزيًا» بين الجهات والفئات، إلا أنه لا يُخفي حقيقة تحوّله التدريجي إلى عبء ثقيل على المالية العمومية.

فميزانية الدولة باتت تُوجّه الجزء الأكبر من نفقاتها إلى التأجير والتصرّف على حساب التنمية، التي لا يقتصر ضعفها على محدودية المبالغ المرصودة لها، بل يشمل أيضًا تدنّي نسبة الإنجاز إلى أقل من 30 %.

واليوم، مع استئثار كتلة الأجور بـحوالي 41% من نفقات الدولة – وهي من أعلى النسب في المنطقة – تتزايد المخاوف من أن يُشكّل استمرار سياسة توسيع الجهاز العمومي عبئًا ماليًا متفاقمًا، خصوصًا وأن أغلب الانتدابات موجهة إلى قطاعات خدماتية غير منتجة مباشرة مثل التربية والصحة والأمن.

ورغم أهمية هذه القطاعات في خلق الإطار العام للنمو، فإنها تبقى قطاعات غير مولّدة للثروة، وتكشف غياب سياسة تشغيل واضحة أو تحفيز فعلي على الاستثمار والإنتاجية.

من هنا، يبدو من السليم القول إن الانتدابات المبرمجة لا تمثل سياسة تشغيل حقيقية بقدر ما هي سياسة تهدئة اجتماعية.

فالدولة تُوزّع الوظائف لتؤجّل الانفجار، لكنها تفعل ذلك بثمن باهظ، إذ تُعمّق أزمة المديونية وتُقلّص قدرتها على خلق النمو ودفع التنمية، خاصة في هذا السياق التونسي الراهن الذي ترتفع فيه المطلبية الاجتماعية إلى مستويات غير مسبوقة.

إن الدولة التونسية، كما تكشف تفاصيل مشروع ميزانية 2026، تُدير الاقتصاد والمالية بمنطق سياسي هدفه تجنّب الصدام الاجتماعي، حتى وإن قاد ذلك إلى توسيع الجهاز الإداري والعمومي الذي قد يمنحها هدنة اجتماعية مؤقتة، لكن بثمن ثقيل جدًا.

فما تُنفقه الدولة اليوم في الأجور هو بالضبط ما تقتطعه من الاستثمار ومن آفاق التنمية المستدامة.

وفي ظل وضع مالي دقيق وهشّ، واقتصاد يعاني من ضعف الإنتاجية، ومالية عمومية ترزح تحت أزمة هيكلية لم تنجح كل السياسات الظرفية في معالجتها بل فاقمتها، يبدو واضحًا أن توسيع الإنفاق الاجتماعي بات عائقًا بنيويًا يحول دون أي إصلاح حقيقي.

وما لم تُغيّر الدولة مقاربتها، فستواصل لعب دورها الاجتماعي على حساب الاقتصاد والمالية، أي على حساب المستقبل ذاته.

ويبقى السؤال الأهم، كم من الوقت يمكن أن تستمر دولة تستهلك وتوظّف أكثر مما تُنتج، وتعمّق مديونيتها لتشتري السلم الاجتماعي؟

المشاركة في هذا المقال