Print this page

أسبوعين على وقف إطلاق النار في غزة: الاحتلال يحوّل الهدنة إلى أداة لإعادة رسم الواقع

إن أردنا وصف أفق اتفاق الهدنة بين المقاومة

والاحتلال، بعد أسبوعين من وقف إطلاق النار، ربما كان القول إن اللون الرمادي هو الأكثر قدرة على التعبير عن حجم الدمار على الأرض وعن ضبابية الأفق السياسي والعسكري. فالهدنة لا تزال هشة، والفاعلون الإقليميون والدوليون يتعاملون مع الاتفاق كمن يمشي على جليد رقيق يخشى أن ينكسر من تحت قدميه فيسقط ويغرق معه.

يخيّم على المشهد بعد وقف إطلاق النار هدوء مشوب بالريبة. لا أحد يصدّق تمامًا أن الحرب انتهت، ولا أحد يرغب في أن يتحمل مسؤولية انهيار الهدنة أو القول إنها لن تصمد. لكن ما يجري على الأرض يوحي بأن الاحتلال لا يتعامل مع الاتفاق كالتزام، بل كاستراحة وفرصة لترتيب أوراقه وإعادة تعريف قواعده وأهدافه الجديدة.

فمنذ اليوم الأول لدخول الهدنة حيّز التنفيذ، كان جليًا أن الاحتلال باشر مناورة جديدة بدأت بخطابه عن «الأمن» و«التهديد المستمر»، وبعد استلام أسراه بدأ باتخاذ خطوات تهدف إلى دفع الهدنة نحو الانهيار دون أن يتحمل وزر ذلك. فلجأ إلى سردية عدم احترام المقاومة للاتفاق، التي يسوّق لها على أنها فرضت عليه عمليات محدودة، مواصلة في الوقت نفسه فرض قيود خانقة على دخول المساعدات إلى قطاع غزة.

هذه الخطوات التي يتخذها الاحتلال لا تكتفي بالإشارة إلى تكرار سلوكه المختزل بـ»الالتزام اللفظي مقابل التنكر العملي» لكل اتفاقاته والتزاماته، بل تكشف أيضًا أن الاحتلال يتبع نهجًا سياسيًا يهدف إلى إفراغ الاتفاق من محتواه دون إعلان التنكر له رسميًا لتجنب التداعيات والعواقب، وهذا ما التقطته واشنطن، التي لعبت دور الضامن للاتفاق وصاحبة المبادرة.

وهو ما تحرص إدارة ترامب على تذكيره خلال الأيام الفارطة، حيث حملت رسائل كثيرة تفيد بأن أمريكا تتابع التطورات وتحرص على فرض الالتزام بالاتفاق، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على نهجها السياسي بمنح الاحتلال غطاءً سياسيًا يحول دون أن يتحمل مسؤولية أي اختراق أو انتهاك لبنود الاتفاق.

فالناظر لزيارة نائب الرئيس الأمريكي جي. دي. فانس إلى الاحتلال يدرك أن الرسالة الأساسية هي طمأنة الاحتلال بأن الإدارة، وإن كانت «منزعجة»، لن تتخلى عنه، لكنها في المقابل تريد منه مساعدتها في إعادة تثبيت إيقاع الهدنة لتحقيق الهدف الأساسي للاحتلال، وهو القضاء على المقاومة والحؤول دون قيام دولة فلسطينية.

هذا الخطاب يكشف عن خشية أمريكية من أن تغالي حكومة الاحتلال في التصعيد، ما قد ينسف ما تعتبره واشنطن أهم خطوة في إعادة صياغة علاقتها الإقليمية بالحكومة. إذ تدرك الإدارة أن استمرار التوتر يهدد رؤيتها الإقليمية القائمة على دمج الاحتلال ضمن محيطه العربي اقتصاديًا وأمنيًا، بينما استمرار التصعيد ونقله إلى مناطق أخرى سيزيد من عزلة الاحتلال، وهذا ما لا ترغب الإدارة الأمريكية به.

ما تريده إدارة ترامب هو إنهاء حالة اللاستقرار والتوتر في المنطقة لتنزيل مشروعها الإقليمي، لذلك تحاول تقديم نفسها على أنها تمسك العصا من الوسط: تضغط لتثبيت الهدنة دون أن تُحرج حليفها علنًا، وتذكره بأن استمرار التصعيد قد يقوّض هذا «الاندماج» الموعود ويعيد الاحتلال إلى موقع الكيان المحاصر داخل عداء إقليمي متجدد، لكنها في المقابل تعده بتحقيق مصالحه الأمنية والاستراتيجية.

يبدو أن الاحتلال وحكومته قرأوا هذه الرسائل كإشارة لوجود مساحة للمناورة، تسمح له بتوظيف الهدنة لإعادة رسم الواقع بما يكرّس منطق «الأمن أولًا»، أي أمنه قبل أي حديث عن تسوية سياسية. فمن خلال استمرار السيطرة على المعابر، وإدارة المساعدات، والتحكم في إيقاع الإعمار، يريد الاحتلال أن يُبقي غزة تحت سقف إدارته غير المباشرة، وأن يحوّل الهدنة إلى غطاء لسياسة تقويض فكرة الدولة الفلسطينية من أساسها.

الرهان لدى الاحتلال هو أن المجتمع الدولي، المنهك من الحرب واللاجئين، سيتكيف مع الأمر الواقع، وأن واشنطن، مهما احتجت دبلوماسيًا، لن تصل إلى حدّ الصدام مع حكومة نتنياهو. لذلك يواصل الاحتلال ما يمكن وصفه بـ»الضغط البارد»: لا تصعيد شامل، لكن استمرار ممنهج في تقليص قدرة الفلسطينيين على الحياة الكريمة، وفي الوقت ذاته إطلاق خطاب سياسي يتحدث عن «مرحلة ما بعد حماس» و»ترتيبات أمنية طويلة المدى»، وهي عبارات تخفي في جوهرها مشروعًا واضحًا.

ما يفعله الاحتلال اليوم هو استخدام الهدنة كأداة لإعادة هندسة الصراع: لا سلام ولا حرب، بل حالة إدارة دائمة للدمار تتيح له التحكم في الزمن الفلسطيني وفي خرائط الإقليم. إنها استراتيجية «الهيمنة الآمنة» دون إعلان صريح عن ضم أو توسع.

غير أن هذا المنطق، مهما بدا ناجعًا على المدى القصير، يحمل في طياته بذور التناقض. فكل خطوة يقطعها الاحتلال تُضعف سردية «الاندماج الإقليمي» التي تراهن عليها واشنطن، وكل تصعيد إضافي يظهر الاحتلال كقوة غاشمة لا كشريك محتمل في استقرار الشرق الأوسط.

لذلك، فإن ما يراه الاحتلال مكسبًا تكتيكيًا قد يتحول على المدى المتوسط إلى عبء استراتيجي، إذ يُفقده الغطاء الأمريكي الناعم الذي لطالما شكّل درعه الدبلوماسي. واشنطن، حتى وإن لم تُصرّح بذلك علنًا، بدأت تدرك أن استمرار الاحتلال في سلوكه الحالي يُفرغ خطابها وسياساتها من أي معنى، ويقوّض مصداقيتها أمام حلفائها العرب.

في المحصلة، يبدو أن الهدنة لا تعيش إلا بقدر ما تسمح به الحسابات السياسية، ليس فقط للاحتلال، بل لدول المنطقة والإدارة الأمريكية، وأن ما يُسمّى «ما بعد الحرب» ليس سوى فصل جديد من إدارة الصراع بوسائل مختلفة

المشاركة في هذا المقال