Print this page

الإضراب العام في قابس: إعاد طرح سؤال الحكم ؟

الإضراب العام الذي شلّ يوم أمس مدينة قابس لم يكن

مجرّد تحرّك جهوي احتجاجي على أوضاع بيئية وتنموية متردّية، بل هو تأكيد على أن الاحتجاجات في قابس غادرت مربع التحرك البيئي لتكون حدثًا سياسيًا وطنيًا بامتياز، أعاد طرح أسئلة عميقة حول منهج إدارة الدولة، وحدود قدرتها على الإصغاء للشارع، بل ودرجة الانسجام داخل السلطة التنفيذية نفسها.

فالأحداث في قابس لا يمكن اختزالها اليوم في مطالب بيئية اجتماعية متكرّرة، بقدر ما يجب قراءتها كرسالة غضب من الأطراف إلى المركز، ورسالة رفضٍ لسياسات حكومية وُصفت محليًا بأنها قائمة على الوعود المؤجلة والمعالجات الظرفية.

لقد بدا الإضراب العام، الذي انطلق ساعات بعد جلسة الحوار بين الحكومة والبرلمان، أشبه باستفتاء شعبي على أداء السلطة التنفيذية وخطابها، ونتائجه كانت الرفض الصريح لمنهجها في التعاطي مع الجهات، وهو ما جعل صداه يتجاوز الجنوب الشرقي ليهزّ المشهد السياسي الوطني بأكمله.

فهذا الإضراب عبّر عن رفض أهالي الجهة لسياسات السلطة ومقاربتها، رفضٍ لم يكن صامتًا أو معزولًا، بل دوّى صداه في شتى ربوع البلاد التي تابعت الإضراب ومن قبله جلسة الحوار أول أمس الاثنين في البرلمان، والتي خُصّصت لمناقشة ملف التلوث البيئي في قابس، لكنها كشفت عن صورة أشد تعقيدًا في مشهد الحكم.

ففي الجلسة التي حضرها وزيرا الصحة والتجهيز، وغابت عنها رئيسة الحكومة والوزراء الأكثر صلة بالموضوع، وفي مقدمتهم وزراء البيئة والصناعة والطاقة، التقط جزء واسع من التونسيين نقطة الغياب، خاصة في السياق الراهن الذي يرتقي بالغياب ليجعل منه رسالة سياسية مزدوجة.

فهي رسالة تكشف عمّا باتت عليه العلاقة بين الوظيفتين/السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة، وعن علاقة منظومة الحكم بذراعيها التنفيذي والتشريعي مع الشارع من جهة أخرى.

فإن كانت في القسم الأول والمباشر منها حملت مؤشرات واضحة عن عجز التواصل بين البرلمان والحكومة، التي يبدو أنها في حالة ارتباك داخلي يُضاف إلى ارتباكها في معالجة الملفات الوطنية المتراكمة، كشفه خطاب الوزيرين.

أما القسم الثاني المتعلق بالعلاقة بين السلطة والشارع، ففي تقاطع الحدثين — الإضراب العام في قابس يوم أمس والجلسة في البرلمان يوم الاثنين — جعل من الأسبوع الجاري لحظة كاشفة لحالة الحكم في تونس. وكشفت أن الدولة ومؤسساتها لم تُحسن الإنصات إلى الجهات، فوجدت نفسها اليوم في مواجهة غضب ضد أسلوب إدارة البلاد.

وما زاد من عمق الأزمة بين السلطة والشارع هو أن الحكومة، ممثلة في رئيستها والوزراء المعنيين بالملف مباشرة، عوض أن تواجه الأسئلة الصعبة مباشرة، اختارت الغياب بدلالاته ورمزيته السياسية، في وقتٍ يُفترض أن يكون فيه الحضور السياسي فعلًا قياديًا ومسؤولًا.

هنا تتجاوز دلالات الإضراب العام في قابس حدود المطالب البيئية الجهوية، لتكشف أن الثقة في الدولة تتآكل من الأطراف، وأنّ ما يجري في جزء من جنوب البلاد يمكن أن يتحوّل بسهولة إلى موجة وطنية إن لم تُقرأ الرسائل جيدًا.

فالمواطنون في قابس لم يعودوا يطالبون فحسب بوقف التلوث أو بالإسراع بالمشاريع، بل يرفضون الخطة الحكومية التي يرونها فاقدة للرؤية الشاملة، ويعبّرون عمليًا عن فقدان الثقة في قدرة الفريق الحاكم على إنجاز وعوده.

رسائل وجهها الإضراب العام والمسيرة التي جابت شوارع مدينة قابس، وشارك فيها الآلاف نددوا في شعاراتهم بما يعتبرونه تسويفًا ومماطلة من السلطة لهم، وتمسكوا بمطالبهم التي يتصدر قائمتها تفكيك الوحدات الصناعية المتسببة في التلوث، ليرددوا: «الشعب يريد تفكيك الوحدات».

هذه الإرادة تصطدم مع خطط الحكومة التي يبدو أنها، وفي ظل هذا المناخ المتسم بتصاعد حدة الغضب، يجب أن يُنزَل غياب رئيستها والوزراء المعنيين مباشرة بالملف، لا فقط عن الجلسة البرلمانية، بل في كل ما يتعلق به منذ منتصف أكتوبر الجاري، في سياق سياسي شامل لفهم ما يمكن أن يكون خطة أعلى هرم السلطة في إدارة الوضع سياسيًا ومحاولة احتواء الأزمة قبل أن تتسع رقعتها.

وهنا يصبح الغياب أيضًا دلالة سياسية، لا فقط على غياب التنسيق والانسجام صلب السلطة التنفيذية، التي قد يتجه المسؤول الأول فيها، وهو رئيس الجمهورية، إلى خيار التحوير الوزاري كخطوة لامتصاص الغضب وتحميل الحكومة ممثلة في رئيستها وعدد من الوزراء المسؤولية السياسية المباشرة عمّا باتت عليه الأمور.

هذه الخطوة التي تلقي رئاسة الجمهورية ببعض العناصر التي يمكن أن يقود تأويلها إلى استنتاج إمكانية إجراء تحوير وزاري لحلّ الأزمة وترميم الثقة التي تآكلت بين الدولة ومواطنيها في قابس، لكن هذا غير مضمون النتائج، خاصة اليوم بعد الإضراب العام الذي جعل من قابس رمزًا وطنيًا لتصدّع العلاقة بين الدولة ومواطنيها.

وجعل منها أيضًا صرخة مواطنية تُذكّر بأنّ التنمية لم تعد مسألة موارد فحسب، بل مسألة ثقة وعدالة واعتراف.

وأن غياب الصف الأول من الحكومة والسلطة عن الجهة التي تتصاعد فيها حدة الاحتقان منذ نهاية شهر سبتمبر الفارط لم يكن خطأ في التقدير، بل تعبيرًا عن أزمة حكمٍ تبحث عن بدائل في ظلّ مشهد سياسي مغلق وأفقٍ اجتماعي متوتّر.

الأكيد اليوم أنّ قابس تجاوزت حدودها الجغرافية لتصبح قضية سياسية بامتياز.

فالإضراب العام الذي حمل مطالب بيئية وتنموية، حمل أيضًا حكمًا شعبيًا ضمنيًا على الأداء الحكومي، ورسالة واضحة بأنّ الشرعية لا تُستمد فقط من صناديق الاقتراع، بل من القدرة على الإصغاء إلى الناس والردّ على أسئلتهم.

وأن الشارع لم يفقد نبضه، وهو قادر على الانتفاض ضد غياب السلطة في الميدان كما في البرلمان، ليكون هو الفعل السياسي الأوضح في البلاد.

وذلك هو جوهر الرسالة التي بعثت بها قابس، والتي لا يمكن للحكم في تونس أن يتجاهلها دون أن يخاطر

المشاركة في هذا المقال