Print this page

هدنة على حافة الشك: ملامح اليوم التالي في غزة وإعادة تعريف النصر

الحدث يوم أمس كان الإعلان عن التوصّل إلى اتفاقٍ

لوقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، إثر مفاوضات غير مباشرة احتضنتها مدينة شرم الشيخ المصرية، ليهيمن الحدث السار على المشهد، رغم أنّه يأتي بعد انقضاء سنتين من حرب إبادة يتعرّض لها الفلسطينيون دمّرت ما تبقّى من عمران غزة وعكّرت حياة سكانها.

مظاهر الفرح والسرور لم تغب عن ما تبقّى من شوارع غزة وركامها، إذ استقبل آلاف الفلسطينيين الخبر بزغاريد وأهازيج وهتاف يعلن عن توقّف مأساتهم، وإنْ ظرفيًّا. فالأتفاق هو اليوم أشبه بـ»هدنة» بعد حربٍ طويلة، أكثر من كونه نهاية فعلية لها، في ظلّ ضعف الضمانات وتلكّؤ الاحتلال ومناوراته. ولكن رغم ذلك، فهو يمنح الأمل والحياة للفلسطينيين في غزة، ويفتح الباب أمام أسئلةٍ كبيرة تتجاوز ما تمّ الاتفاق بشأنه في المرحلة الأولى، وتبحث عن شكل اليوم التالي، وهوية المرحلة المقبلة في الصراع الفلسطيني مع الاحتلال.

إذ إنّ الاتفاق الذي جرى التوصّل إليه برعاية مصرية، وبدعم مباشر من قطر وتركيا، وبضغطٍ أميركي معلن، يتضمّن في مرحلته الأولى وقفًا شاملًا لإطلاق النار على مراحل، تتزامن مع تبادلٍ للأسرى، وانسحابٍ تدريجي لقوات الاحتلال من مناطق واسعة من القطاع، وفتح ممرّاتٍ إنسانية تحت إشرافٍ دولي، دون الإقرار صراحةً بنهاية الحرب أو التوافق على تفاصيل العملية السياسية القادمة في القطاع وخطة إعادة الإعمار.

هذه البنود المتفق عليها بالكاد تستطيع إخفاء تعقيدات المشهد وارتهان أحداثه لصراعٍ مركّب: صراع بين المقاومة والاحتلال على تعريف النصر وحدوده، وصراع داخلي يعيشه الاحتلال المنقسم على منطقين سيحدّد أحدهما مصير الاتفاق ومستقبل المنطقة. ففريقٌ من الاحتلال يريد أن يجعل من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مقتصرًا على استعادة أسراه وفترة تهدئةٍ مؤقتة لإعادة ترتيب المشهد العسكري والسياسي قبل استئناف الحرب على القطاع، في حين يرى فريقٌ آخر فيها فرصةً سياسية لإنهاء الحرب وفرض معادلةٍ سياسية في القطاع والمنطقة، واستعادة شرعية الاحتلال الدولية. أي إنّ الصراع اليوم في البيت الداخلي للاحتلال يعمّق الانقسام بين دعاة «الحسم النهائي» من اليمين المتطرّف في الحكومة خصوصًا، وبين أنصار «الصفقة الممكنة» الذين تمثّلهم المؤسستان الأمنية والعسكرية للاحتلال، بالإضافة إلى معارضي حكومة نتنياهو.

هذا الصراع المركّب لا يمكن اليوم التكهّن بدقةٍ بمآلاته، فالعناصر التي تتدخّل في المشهد متعدّدة، واللاعبون الرئيسيون فيه— وهما بالأساس الإدارة الأميركية والاحتلال— لا يمكن الوثوق بهما ولا بخطواتهما القادمة، مما يجعل المشهد مرتهنًا لحساباتٍ شخصية أو رهاناتٍ سياسية لأحدهما.

أي إنّ هذا الاتفاق لا يخلو من هواجس سياسية، إذ يُخشى أن يتحوّل إلى غطاءٍ إمّا يوفّر للاحتلال حيّزًا زمنيًّا وهوامش للمناورة لاستئناف حربه بعد ترميم صورته أمام الرأي العام الغربي الذي ضاق ذرعًا بمشاهد الإبادة، أو غطاءٍ لتبرير استئناف الحرب بذريعةٍ مصطنعة تُلقي باللوم على المقاومة وعلى الفلسطينيين. فما يدركه الفاعلون في منظومة الاحتلال هو أنّ قبول الهدنة يعني ضمنيًا الاعتراف بأنّ الأهداف القصوى التي رُفعت في بداية الحرب من القضاء على حماس إلى «تغيير الواقع في غزة» لم تتحقق.

لكن هذا لا يُبخس الاتفاق حقّه، فهو في بُعده الإنساني والإغاثي يوفّر فرصةً لمئات الآلاف من الفلسطينيين لاستعادة شيءٍ من حياتهم في فترة وقف النار، وإن كانت مؤقتة، كما يمنحهم هوامش للتحرّك والتقليل من تداعيات الظروف القاسية التي يعيشونها في مدينة خُنقت تحت الحصار والدمار.

وهذا ما يمكن اعتباره مكسبًا حققته المقاومة، التي يمكن النظر إلى كيفية إدارتها للمفاوضات على أنّها تعبيرٌ دقيق عن لحظة توازنٍ قسري بين واقع القوة وحدود الصمود.

فالمقاومة، وحركة حماس تحديدًا، رغم ما أظهرته من قدرةٍ على الاستمرار والمناورة، تجد نفسها أمام سؤالٍ وجودي منذ بداية حرب الإبادة، وهو كيف تُترجم مقاومتها السياسية والعسكرية وما راكمته من نقاط إلى مشروعٍ وطني يُعيد بناء الوحدة الفلسطينية ويمنع تحويل غزة إلى كيانٍ منهكٍ ومعزول، في ظلّ تواطؤٍ إقليمي وغربي مع الاحتلال؟

والأهمّ، كيف يمكنها أن توازن مرونتها في التفاوض لإنهاء الحرب دون أن تُفرغ المقاومة من معناها السياسي؟ وهو ما يجعل رهانها اليوم لا يقف عند إطالة مدة الهدنة، بل عند المساهمة في تحديد مضمون النقاط الموالية، ومنها تحديد ما إذا كانت عملية إعادة الإعمار ستكون تحت سيطرةٍ وطنية فلسطينية شاملة أم تحت وصايةٍ غربية؟

رهانٌ لا تُغامر به المقاومة فقط، بل الوسطاء أيضًا، وخاصة القاهرة والدوحة، فالعاصمتان العربيتان تدركان أنّ نجاح الاتفاق مرهونٌ بقدرته على الانتقال من وقف النار إلى إطلاق مسارٍ سياسي واقعي، يضمن على الأقل هدنةً دائمة، وترتيباتٍ أمنية وإنسانية أكثر استقرارًا وإنصافًا للفلسطينيين.

وهو ما يعني ان ما تحقق ليس نهاية الحرب بقدر ما هو بداية اختبارٍ جديد لكلّ الأطراف. فالاتفاق، مهما بدت بنوده متفائلة، يبقى محكومًا بميزان قوى غير متكافئ، وبحساباتٍ سياسية متشابكة تتجاوز غزة لتكون اقليمية ودولية.

لكن أنّ الأكيد أنّ ما بعد هذه الهدنة لن يكون كما قبلها، إذ دخل الصراع طورًا جديدًا، تتقاطع فيه الأسئلة الإنسانية بالرهانات السياسية

المشاركة في هذا المقال