للسابع من أكتوبر 2023 بعيداً وكأنه ينتمي إلى حقبة أخرى، ما يفصل بينهما آلاف الجثامين من الشهداء، والدمار، والتجويع، وجرائم الحرب والإبادة التي وُثقت ونُقلت إلى العالم في بثّ مباشر.
إذ إن ذلك اليوم (7 أكتوبر) لم يكن مجرد هجوم عسكري مباغت، بل لحظة إعادة تشكيل للمشهد الفلسطيني والإقليمي برمّته، بثمن باهظ قدّمه الغزّاوِيّون من أجل كسر معادلات القوة والسرديات التي حكمت الصراع «العربي/الإسرائيلي» لعقود. فبعد عامين، اتضح أن المقاومة الفلسطينية لم تكن تسعى فقط إلى تسجيل اختراق أمني أو ميداني، بل إلى هزّ الأسس الرمزية لهيمنةٍ أرادها الاحتلال أبدية: الردع المطلق، الأمن الدائم، وتصفية القضية بجعلها قضية أمن وتنمية، لتفرض معادلة جديدة.
منذ تلك اللحظة تغيّر كل شيء، في غزة كما في العالم. فما أراده الاحتلال من خلال ردّه الوحشي وغير المتناسب على العملية، بهدف استعادة هيبته المفقودة ومقولاته التي انهارت، لم يكن سوى ارتكاب جرائم حرب وإبادة وتدمير شامل، عبر واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ الصراع.
لكن مع ذلك، وبعد سنتين من المجازر والركام والجوع، لم يحقق الاحتلال أياً من أهدافه المعلنة. فهو لم يستعد أسراه، ولم يقضِ على المقاومة، ولم يُقِم نظاماً سياسياً بديلاً في غزة، سواء عبر وكلاء أو عبر الاحتلال والسيطرة المباشرة. فكان كل ما فعله فعلاً هو أنه أسقط أسطورته التي رسّخها عبر الدعاية التي قدّمته كجيش لا يُقهر، ودولة تمتلك تفوقاً استخباراتياً وأخلاقياً لا يُضاهى.
كل هذا انهار ليجد الاحتلال نفسه اليوم في عزلة دولية غير مسبوقة، يقرّ بها قادته الذين لا يزالون يكابرون ويرفضون الإعلان صراحة أنهم تكبدوا هزيمة معنوية وسياسية. تفوقهم الوحيد هو حجم الضرر والدمار الذي تُخلّفه آلتهم العسكرية، بعدما تحوّلوا من «ضحية» يتعاطف معها الشارع الغربي إلى متهم بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، منبوذ في العالم الذي انكشفت أمامه هشاشة خطابه الأخلاقي الذي طالما استند إليه الاحتلال لتبرير جرائمه وانتهاكه للقوانين الدولية.
لقد أعادت حرب الإبادة في غزة تشكيل صورة الاحتلال في الوعي الدولي. فلم يعد يُنظر إليه على أنه «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، بل كدولة استعمارية تمارس الفصل العنصري وتستهدف المدنيين والمدارس والمستشفيات ودور العبادة، وككيان متعصّب يتلذّذ بصور الدمار وجثث الأطفال. هذا الانهيار في الصورة الدعائية للاحتلال أحدث شرخاً في الضمير العالمي الذي صُدم بوقائع حرب الإبادة وجرائم الاحتلال. فما لم تستطع المقاومة أن تحققه بالسلاح، حققته الصور، التي لم تكتفِ بالكشف عن أهوال الحرب، بل عرّت ازدواجية الغرب وكشفت أن القيم التي يروّج لها لا تتجاوز حدود مصالحه. فمن يتحدث عن القانون الدولي في أوكرانيا يصمت أمام غزة.
كانت حرب الإبادة في غزة مرآةً عكست أزمة الغرب نفسه، لتجد الولايات المتحدة نفسها أسيرة دعمها الأعمى للاحتلال، في وقتٍ يتنامى فيه تيار داخلي يرى في ذلك خيانة للمواطن الأمريكي. وفي أوروبا، تصدعت الجبهة السياسية بين حكوماتٍ تخشى المساءلة ومجتمعاتٍ تخرج إلى الشوارع مطالبة بوقف المجازر. لم تعد المسألة مجرد انقسام في المواقف، بل أزمة في المعنى والقيم، ومسائلة عن كيف يمكن لمنظومة تزعم الدفاع عن الإنسان أن تصمت أمام الإبادة؟ وكيف لمن يدّعي حماية النظام الدولي أن يبرّر هدمه عندما يتعلق الأمر بفلسطين؟
أما في العالم العربي، فقد كشفت الحرب عن عجز النظام الرسمي. فالدول التي هرولت نحو التطبيع وجدت نفسها أمام طوفان يذكّرها بأن فلسطين لم تمت. ولئن لم تتبدّل السياسات كثيراً، إلا أن شيئاً عميقاً تبدّل في الوعي الجمعي. فقد عاد الفلسطيني إلى مركز المخيال العربي، لا كضحية بعيدة، بل كمرآة لما يُراد لشعوب المنطقة، وخاصة العربية، أن تكون عليه من خضوع وصمت، تحت هيمنة الاحتلال ونفوذه الإقليمي. وهكذا تحولت عملية طوفان الأقصى من حدث عسكري إلى زلزال سياسي وأخلاقي أيقظ ما حاولت الأنظمة العربية دفنه: أن لا استقرار ولا سلام يُبنى على الظلم، وأن العدالة لا يمكن أن تكون خياراً انتقائياً، والأهم أن الاحتلال لا يمكن أن يندمج في المنطقة لكونه كياناً استعمارياً بطموحات توسعية تهدد دول الجوار.
حرب لم تُعد فقط هندسة الوعي العالمي، بل أعادت ترتيب المشهد الدبلوماسي، ليدرك العالم أنه لم يعد ممكناً التعامل مع القضية الفلسطينية كملف إنساني أو كأزمة لوجستية في توزيع المساعدات، بل يجب النظر إليها كقضية تحرر وطني ستكون معياراً لصدقية الخطابات السياسية في العالم. فالأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، والمنظمات الحقوقية، بل والرأي العام العالمي، صارت كلها فضاءات يُعاد فيها طرح السؤال الجوهري: كيف يمكن أن يستمر هذا الاحتلال بلا مساءلة؟ لقد أعادت غزة الذاكرة إلى التاريخ، وأجبرت العالم على النظر في المرآة من جديد، من خلال مأساتها وستين ألف شهيد وأضعافهم من الجرحى.
اليوم، ونحن على بعد عامين من اللحظة القادحة، يمكن القول إن الاحتلال ربح معركته العسكرية وحوّل غزة إلى دمار، وشرّد وقتل الآلاف وجوّعهم، لكنه في المقابل خسر معركة الشرعية، وبات قادته ينظرون اليوم إلى انتقالهم نحو «إسبرطة عظيمة»، دولة معسكرة منغلقة على ذاتها لمواجهة العزلة والضغوط الدولية المتزايدة. أما الفلسطينيون، الذين تكبّدوا الثمن الباهظ من الأرواح والأجساد والممتلكات، فقد ربحوا المعنى، إذ أعادوا إلى العالم تعريف القوة، لا بوصفها سلاحاً فتاكاً بل إرادة لا تُقهر، وذكّروا الجميع بأن القضية الفلسطينية ليست عبئاً سياسياً، بل امتحاناً أخلاقياً مستمراً. لقد ظنّ كثيرون أن التاريخ طوى صفحته، فإذا به يعود من جديد، من بين الركام، ليقول إن العدالة لا تموت، وإن الأرض التي تُروى بالدم لا تُنسى.
إن «طوفان الأقصى»، أيّاً كانت المآلات التي ستقود إليها المفاوضات اليوم في مصر، أعاد فتح فصولٍ جديدة في سردية المنطقة والعالم. فحين يسقط الخوف وتتكسر الأساطير، يصبح الطريق إلى الحرية أقل استحالة. وبين مأساة غزة وصمودها، تكمن الحقيقة التي حاول العالم إنكارها: أن الاحتلال هو مصدر العنف في المنطقة، وأن فلسطين، رغم كل الألم، تظل بوصلة الأخلاق والوعي الإنساني