Print this page

من قضية تحرر وطني إلى ملف أمني: قراءة في خطة ترامب لغزة

يبدو أننا أمام لحظة تاريخية سيحدد فيها مستقبل

الشرق الأوسط تباعًا لما ستعلنه المقاومة الفلسطينية من موقف داعم أو رافض لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة، والمتضمنة لـ21 نقطة لم تُخفِ ولم تسعَ لتجميل حقيقة أنها تخدم الاحتلال على حساب الفلسطينيين وقضيتهم.

فخطة ترامب التي يبدو أن البعض يريد أن يختلق صورة لها تجعلها في ظاهرها استجابة إنسانية عاجلة لوقف نزيف الدم الفلسطيني وإطلاق الأسرى والشروع في إعادة إعمار قطاع غزة، هي ودون جهد مضنٍ في تفكيك بنودها خطة لتصفية القضية الفلسطينية وتحويل وجهة مسارها من قضية تحرر وطني إلى ملف إداري وأمني يخضع فيه قطاع غزة لوصاية دولية طويلة الأمد، دون أي التزام بإقامة دولة فلسطينية.

هذه الخطة التي تباركها اليوم 6 دول عربية وإسلامية، وهي مصر وقطر والإمارات والسعودية وتركيا وإندونيسيا، والتي وإن كانت تنص في البنود الأولى على وقف إطلاق النار، وانسحاب الاحتلال التدريجي والمشروط من القطاع وتبادل الأسرى والمعتقلين، بإطلاق جميع الأسرى لدى المقاومة خلال 72 ساعة مقابل الإفراج عن محكومين بالمؤبد وآلاف المعتقلين الفلسطينيين، إلا أن تفاصيل تطبيق هذه البنود تكشف منذ البداية الاصطفاف الأميركي إلى جانب الاحتلال، فهو وإن كان حريصًا على أمن الاحتلال وأسراه فلا يبدو بالحرص ذاته على أمن الفلسطينيين، الذين جعل سلامتهم مرتبطة بشروط سياسية وأمنية لاحقة، ويمنح الاحتلال صلاحيات أمنية وعسكرية واسعة في القطاع الذي سيكون بشكل صريح ومباشر تحت سطوته وسيطرته الأمنية.

فالخطة التي تُقدَّم على أنها للسلام وإنهاء الحرب هي خطة استسلام، تُطالَب فيها المقاومة بأن تتجرد من سلاحها الذي سيكون مصيره التفكيك والإعدام لا مخازن السلطة الفلسطينية، مقابل عفو شامل أو مرور آمن لكل مقاوم يُسلِّم سلاحه. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل يُعرض خيار الخروج لكل مقاوم يرفض البقاء في غزة بعد استسلامه.

بعيدًا عن كون هذا البند هو تحقيق لأهم أهداف حرب الاحتلال وهو القضاء على المقاومة وتفكيكها، فإن الخطر فيه أنه يُحوِّل المقاومة من تعبير سياسي ووطني عن رفض الاحتلال إلى «مشكلة أمنية» تُصنَّف تحت يافطة الإرهاب، تُعالج عبر برامج نزع سلاح مشروط وعفو وإدماج. أي أنه تفكيك أدوات المقاومة سواء بالسلاح أو بالشرعية دون مقابل سياسي واضح أو مسار ينتهي بالاستقلال وإقامة دولة. كما أنه يحول السلاح إلى ورقة تفاوض أحادية بين الجهة المبادِرة بالخطة والمقاومة، ويلغي الصراع مع الاحتلال الذي يُقدَّم وفق الخطة كطرف متضرر مثله مثل دول الجوار.

هذا الضرر تُقدم الخطة تصورًا لكيفية وضع حد له، والتصور لا يقوم فقط على تفكيك المقاومة وبنيتها التحتية وتهجيرها من القطاع، بل أيضًا تصور سياسي لكيفية إدارة غزة مستقبلًا. فالبنود التي تُقدَّم على أنها متعلقة بالإدارة الانتقالية، ليست إلا إعلانًا عن دخول غزة عهد «الوصاية»، وهذه المرة أميركية وليست بريطانية، كما أنها محملة بعبارات وهيئات تخفف من حقيقة أن قطاع غزة لم يعد لأهله.

فالبنود تتضمن إحداث «لجنة تكنوقراطية فلسطينية غير سياسية» تعمل تحت إشراف «مجلس سلام» دولي يترأسه ترامب ويضم شخصيات مثل توني بلير، سيتولى هو عملية إدارة القطاع والإشراف عليه إلى أجل غير محدد تصبح فيه السيادة الفعلية بيد هيئة دولية، تُشرِّع وتُشرف وتحدد أولويات الأمن والتنمية للفلسطينيين في أرضهم المهددة اليوم بأن يتحول فيها «المؤقت» إلى «دائم»، خصوصًا وأن مجلس السلام له كامل الصلاحيات التي تجعله يوظف المساعدات وإعادة الإعمار باستمراره في موقعه.

هذه العناصر تكشف أن الخطة ليست إلا محاولة لإعادة رسم قطاع غزة ككيان إداري مستقل يخضع لمسار خاص سواء تعلق الأمر بإدارته أو بإعادة الإعمار والتنمية، ويفصل عن الضفة الغربية التي ستترك لمسارات تفاوضية أخرى. أي أن الخطة لا تكتفي بكل ما تقدمه من خدمات للاحتلال، بل تمنحه تثبيت الانقسام الجغرافي والسياسي للأرض الفلسطينية، وهو ما يهدد أي إمكانية واقعية لإقامة دولة فلسطينية موحدة ذات سيادة على أراضي 1967 وفق ما تقترحه اليوم المبادرة الفرنسية-السعودية.

كما أن الخطة التي تَعِد بمشاريع إعادة إعمار كبرى ومنطقة اقتصادية وجذب استثمارات دولية، في سياق تحويل مسار حرب التحرر إلى مسار تنموي اقتصادي، وهو البديل الذي يقدمه ترامب منذ عهدته الأولى واتفاقياته الإبراهيمية، ليست خالية من ثغرات مهلكة. فهذه الخطة ولتحقيق هذه الأهداف التنموية تمنح «مجلس السلام» الذي يرسمه ترامب وبقية الهيئات واللجان الخاضعة له، أي الإدارة غير السياسية وغير المنتخبة من قبل الفلسطينيين، صلاحيات إصدار التشريعات، مما يعني أنه وتحت شعار تسهيل عملية إعادة الإعمار وتوفير مناخ للاستثمار قد تُفرض قوانين تتدخل مباشرة في ملكية الأراضي وإعادة توزيعها. وهنا يكمن خطر التغيير الديمغرافي أو العمراني الذي قد يمس بحقوق الملكية للفلسطينيين ويُحوِّل الإعمار إلى وسيلة لإعادة هندسة البنية الاجتماعية والاقتصادية للقطاع.

هذا القطاع الذي يُجرَّد من كل شيء، حتى من أدواته القانونية لضمان حقه، فمع خطة ترامب وسلطته الانتقالية في غزة سيكون للاحتلال سطوة وسيطرة بأوجه عديدة لكن دون مسؤولية قانونية باعتباره محتلًا، بل وقد يُزيح عنه أية مسؤولية قانونية عن جرائم سابقة. وبهذا يُمنح الاحتلال نصرًا وحصانة، لم يكن يخطر ببال أشد متطرفيه أن هذا ممكن في سياق دولي يتسم باستفاقة الضمير العالمي والانتصار للحق الفلسطيني.

حق للأسف بات مهددًا بأن يُهدر ويُصفى كليًا، وهذه المرة بأيادٍ عربية إسلامية ستباشر هي الضغط على المقاومة لإجبارها على القبول بصفقة الاستسلام مقابل أوهام لا يمكنها أن تصمد. فما تقدمه خطة ترامب ليس حلًا سياسيًا يضمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بل آلية لإدارة الصراع تحت عناوين الأمن والتنمية، تضع غزة اليوم تحت وصاية طويلة الأمد تُعيد تعريف القضية من مشروع تحرر وطني إلى مجرد ملف إنساني أمني تنموي

المشاركة في هذا المقال